جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

تحقیق دقیق:

ولنا تحقیق دقیق فی سدّ ثغور دلالة هذه الآیة على عصمة الأئمّة(علیهم‌السلام)، ألهمنا الله تعالى ببركة ما حقّقه الرجل الإلهیّ الفرید فی عصره، الإمام فی العلوم الإسلامیة، سیّدنا الاُستاذ البروجردی - أعلى الله فی الفردوس مقامه - فی مباحثه فی اُصول الفقه، فی مبحث الجمع بین الحكم الظاهری والواقعی، ورفع التنافی المتوّهم بینهما؛ تذكرةً ومماشاةً لمن یصرّ على كون الإرادة فی الآیة تشریعیة.

فنقول مستمدّین العون من الله تعالى:

اعلم أنّ الإرادة التشریعیة هی عبارة عن العلم بالشیء بأ نّه ینبغی أن یُفعل، أو لایفعل، وإنشاء الأمر والنهی، والطلب والزجر لكونهما صالحین أن یكونا داعیین للعبد إذا فعل ما اُمر به أوْ زاجراً له إن فعل ما نهی عنه.

وبعبارة اُخرى: هی إنشاء ما یصلح لأن یكون داعیاً له إلى الفعل المأمور به، وزاجراً عن الفعل المنهیّ عنه؛ كی ینبعث نحو الفعل من ینبعث بأمره، وینتهی عن المنهیّ عنه من ینتهی عن نهیه، ویُتمّ الحجّة على غیره

 

ممّن یستخفّ بأمره، ولایعتنی به.

وهذا قد یجتمع مع الطلب الحقیقی وإرادة الفعل من العبد جدّاً، وهی روح الحكم كما یمكن أن یفارقه، فإذا علم المولى من حال عبده أ نّه ینبعث بأمره، وینزجر بنهیه، وأنَّ أمره یدعوه إلى إطاعته وامتثاله، یرید منه بالإرادة الجدّیة والطلب الحقیقی فعل ما أمره به، وترك ما نهاه عنه، فأمره ونهیه بالنسبة إلى هذا العبد یكون حقیقیاً جدّیاً.

وإذا علم من حاله أنّه لا یؤثّر فیه أمر المولى، و لا یحرّكه بشیء، ولا یصیر داعیاً له نحو الإطاعة والامتثال فلا یعقل أن یكون أمره ونهیه بالنسبة إلى هذا العبد حقیقیاً، ولا یقترن مثل هذا الأمر والنهی بالإرادة الجدّیة من الآمر والناهی.

فإنشاء الأمر والطلب فی الصورة الاُولى كما یكون بالإرادة الحقیقیة یكون حقیقیاً مجامعاً مع الإرادة الجدّیة، وفی الصورة الثانیة یكون صوریاً، ولإتمام الحجّة وقطع العذر.

وبالجملة: فلایعقل إرادة الانبعاث الجدیّة والطلب الحقیقی ممّن یعلم أنّه لاینبعث بأمر المولى، فلایعقل أن یقول: «قم» أو «لاتزْنِ» أو «لاتشرب الخمر» وطلب القیام وترك الزنی وترك الخمر بالإرادة الجدّیة ممّن یعلم أنّه لا ینبعث بهذا الأمر ولا یأتمر به، ولا ینزجر عن الزنی وشرب الخمر، ولا ینتهی بنهیه عنهما حتى لو كان المولى من الموالی العرفیّین، ولم یعلم ذلك

 

من العبد، واحتمل فی حقّه تأثیر أمره فیه وانبعاثه به، وتحریكه نحو الفعل، لا تتأتىّ منه الإرادة الجدیّة بمجرّد ذلك الاحتمال، بل إنّما یأمر وینهى برجاء انبعاث عبده أو انتهائه.

والحاصل: أنّه لا یعقل تعلّق الإرادة الجدّیة والطلب الحقیقی بصدور فعل عمّن یعلم المرید أنّه لا یفعله، والأمر أو النهی فی هذه الصورة لایكون إلاّ صوریّاً. أی إنشاء الأمر لا لغایة الانبعاث، بل لإتمام الحجّة.

وما ذكرناه یستفاد من كثیر من الآیات القرآنیة الكریمة، كقوله تعالى:

(لیُنذِرَ مَن كَانَ حَیّاً وَیَحِقَّ القَولُ عَلَى الكَافرینَ)[1]

وقوله تعالى:

(إنّما تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكرَ وَخَشِیَ الرَّحْمنَ بِالْغَیْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَة وَأجْر كَرِیم)[2]

وقوله تعالى جدّه:

(رُسُلا مُبَشِّرینَ وَمُنْذِرینَ لِئَلاّ یَكونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللّٰهُ عزیزاً حكیماً)[3]

 

وقوله سبحانه:

(لِیَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَیِّنَة وَیَحیى مَن حَیَّ عَن بَیّنَة)[4]

فإرادة قبول الإنذار من المنذر، والإنذار بقصد أن یُنذَر المنذَر لا یكون حقیقیاً إلاّ إذا كان المنذَر ممّن اتّبع الذكر وخشی الرحمن بالغیب، ویؤثّر فیه الإنذار.

أمّا من لم یؤثّر فیه ذلك، ولا یُنذَر بالإنذار فإنذاره لیس إلاّ صوریّاً ولرفع عذره؛ ولئلاّ یكون له على الله حجّة.

هذا، وإن شئت قلت: إنّ الإرادة التشریعیة على ضربین:

ضرب منها ما یعلم المرید من حال المراد منه أنّه ینبعث نحو المأمور به بأمره، ویحرّكه ویصیر داعیاً له، فیطلب منه ذلك بالطلب الحقیقیّ والإرادة الجدیّة.

وضرب منها ما یعلم المرید من حال المراد منه أنّه لا یتأثّر بأمره، فیحكم بأمره أو نهیه بما ینبغی أن یفعل أو لا یفعل وینشئ ما یصلح أن یكون داعیاً له، ولكن لا طلب له حقیقیاً فی هذه الصورة، ولا یرید انبعاث المأمور بهذا الأمر بالإرادة الجدّیة، بل لا یصحّ إطلاق الطلب والإرادة على ذلك بنحو الحقیقة إلاّ مجازاً وبالتمحلّ، بخلاف الأوّل فإنّ إطلاق الطلب

 

والإرادة و أنّه مرید وطالب یكون على نحو الحقیقة.

وعلى هذا نقول: إنّ الإرادة المذكورة فی الآیة وإن كانت تشریعیة إلاّ أنّها جدّیة حقیقیة من النوع الأوّل الّذی أراد الآمر والناهی بالإرادة الجدّیة والطلب الحقیقی انبعاث المأمور، وأمره ونهیه یصدر عنه بداعی انبعاثه، وصراحة الآیة فی ذلك أنّ الإرادة المذكورة فی الآیة وفی كلّ مورد لم تكن قرینة على المجاز صریحة فی الإرادة الجدّیة الحقیقیة.

وإن أبى المعاند عن كلّ ذلك أیضاً وقال: إنّ الإرادة التشریعیة عامّة تشمل جمیع المكلّفین المطیعین والعاصین على السواء.

قلنا: لا تنازع فی الألفاظ والأسماء والاصطلاحات، وقد قیل من قدیم: لامَشاحَّة فی الاصطلاح، فعرِّفِ الإرادة التشریعیة بما شئت، وقل: إنّ الإرادة التشریعیة هی جعل ما یصلح لأن یكون داعیاً للعبد أو زاجراً له، وإنشاء ما له قابلیة الداعویة وبعث العبد نحو الفعل أو الترك.

إلاّ أنّك تعلم أنّ هذا مجرّد اصطلاح، ولا یحصر مفهوم الإرادة فی ذلك، ولا یخرج عن مفهومها الحقیقی ولا ینفی ما هو واقع الأمر، وهو أنّ المولى إذا علم من حال عبده أنّه ینبعث بأمره ویتحرّك بتشریعاته یطلب منه ما أمره به بالطلب الحقیقی وبالإرادة الجدّیة، وإذا علم من حاله أ نّه لا ینبعث بذلك ولا یؤثّر أمره ونهیه فی تحریكه أو امتناعه لا یطلب منه بتشریعاته ما شرّعه بالطلب الحقیقی والإرادة الحقیقیة، ولا یدعوه نحو فعل

 

ما أمره به بداعی أن یفعله، بل یدعوه بداعـی أن یُتمَّ علیه الحجّة، و هذا ما نسمّیه بالأمر الصوری، ومن راجع وجدانه یعرف منه ذلك.

فیصحّ أن نقول: إنّ إطلاق الإرادة على التشریعیة إطلاق مجازی، بخلاف إطلاقه على الإرادة الجدّیة فإنّه إطلاق حقیقی.

وبالجملة: فهل یمكنك إنكار الإرادة الجدّیة بالمعنى الّذی تلوناه علیك ؟

وهل یمكنك أن تقول: إنّها تتعلّق بما لاتؤثّر الإرادة التشریعیة فی الانبعاث نحوه ؟

وهل یمكنك إنكار تعلّقها حقیقةً بالانبعاث، وبوقوع الفعل عن العبد إذا كان الأمر والطلب والإرادة التشریعیة مؤثّراً فی بعث العبد أو زجره ؟

وهل یمكنك أن تقول بعد ذلك بظهور الإرادة المذكورة فی الآیة فی الإرادة التشریعیة دون الإرادة الجدّیة، مع عدم وجود قرینة صارفة عن المعنى الحقیقی، ووجود الشواهد فی الكلام على أنّ المراد بالإرادة هی الجدّیة ؟

وإن شئت فقل: إنّ الإرادة على قسمین: جدّیة، وتشریعیة.

فالتشریعیة عبارة عن طلب التكالیف عن جمیع المكلّفین على السواء بإنشاء ما یصلح أن یكون داعیاً لهم، والحكم بما ینبغی أو یجب أن یفعل، أو لایفعل.

والجدّیة على ضربین: تكوینیة، وغیر تكوینیة.

فالتكوینیة ما یتعلّق بكون شیء بدون واسطة فعل فاعل مختار.

 

وغیر التكوینیة ما یتعلّق بفعل فاعل مختار إذا علم من حاله تحریكه وانبعاثه بالطلب منه.

وبعد كلّ ذلك نقول: إنّ الله تعالى وإن قطع بالإرادة التشریعیة عذر عباده، وأنشأ بأوامره ونواهیه ما یصلح أن یكون داعیاً للجمیع نحو الفعل المأمور به، أو زاجراً لهم عن الفعل المنهیّ عنه، وجعل الكلّ فی ذلك سواء، إلاّ أنّ إرادته الحقیقیة وطلبه الحقیقی تتعلّق بفعل مَن ینبعث عن أمره وینزجر عن نهیه، وأنّ المستفاد من الآیة الشریفة أ نّه لعلمه بحال هذه الذوات المقدّسة، وأ نّهم (عبادٌ مُكرَمونَ * لایَسبِقُونَه بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمرِهِ یَعمَلُون)[5]، «وما یشاؤون إلاّ أن یشاء اللّٰه»[6] أراد بالإرادة الجدیّة (لاالتكوینیة) انبعاثهم نحو جمیع الطاعات، وانزجارهم عن جمیع المنهیّات، فأمرهم بما أمرهم، ونهاهم عمّا نهاهم لا لأن یكون هذا الأمر والنهی لقطع العذر وإتمام الحجّة علیهم، بل لانبعاثهم نحو ما اُمروا به، وانزجارهم عمّا نُهُوا عنه؛ ولیكون باعثاً وداعیاً لهم للامتثال، وتطهیراً لهم عن جمیع الأرجاس، وقد أخبرَنا بذلك فی هذه الآیة الكریمة إعلاماً بجلالة قدرهم، وعلوّ شأنهم، وسموّ مقامهم، وكمال نفوسهم.

 

وعلى هذا دلّت الآیة الشریفة على أنّ فیهم ملكة قبول كلّ ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، والاهتداء بهدایته، ومن كان حاله هذا، یرید الله تعالى إذهاب الرجس عنه، ویوفّر له أسباب التوفیق، ویخصّه بعنایاته الخاصّة، ویجعله تحت رعایته الكاملة، یلهمه كلّ خیر، ویمیّز له كلّ شرّ، لا یَدعُه فی حال من الحالات، ولا فی شأن من الشؤون، یختاره ویصطفیه من بین عباده، وهو القادر على ما یرید، وبكلّ شیء علیم، (لا یُسْئَل عَمّا یَفْعَلُ وَهُمْ یُسْألُونَ)[7].

لا یقال: إنّ ما ذكرتَ هو حاصل لغیر هؤلاء الذوات الكریمة أیضاً من الّذین یخشون الرحمن بالغیب، ویتّبعون الذكر، ویقبلون المواعظ بحسب مراتبهم ودرجاتهم.

فإنّه یقال: نعم، ونحن نعرف كثیراً من الناس على بعض مراتب تلك الصفة السامیة والملكة العالیة القدسیة، مطیعین لله خائفین منه، أهل الخضوع والخشوع وقیام اللیل، معروفین بالعدالة والزهد، ولكن لانعرف على صفة العصمة المطلقة التامّة غیر من شهد الله تعالى له بذلك؛ لأنّ صاحب ملكة العصمة المطلقة لا یُعرَف إلاّ من طریق الوحی، والارتباط بعالم القدس والملكوت الأعلى.

وقد عرّفَنا الله تعالى فی هذه الآیة أهل البیت(علیهم‌السلام)، وأخبرنا بطهارتهم عن

 

الأرجاس كلِّها، وعصمتهم - صلوات الله علیهم أجمعین - ورزقنا الله اتّباعهم والاقتداء بهم، وأماتنا بحبّهم وولایتهم، ولایفرّق بیننا وبینهم طرفة عین أبداً فی الدنیا والآخرة، إنّه الكریم المتفضّل الوهّاب.

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمین.

حرّره تراب أقدام محبّی أهل البیت(علیهم‌السلام)

   لطف الله الصافی الگلپایگانی

16 صفر الخیر 1403 هـ     

 

 

 

 

1. یـس، 70.

2. یـس، 11.

3. النساء، 165.

1. الأنفال، 42 .

[5]. الانبیاء، 26 - 27.

[6]. الاشارة الی الآیة 29 من سورة التکویر )وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن یَشَاء اللَّهُ(.

1. الأنبیاء، 23.

نويسنده: 
کليد واژه: