جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الاعتقاد فی نفی الجبر والتفویض

 

قال الشیخ أبو جعفر الصدوق: اعتقادنا فی الجبر والتفویض قول الإمام الصادق(ع): «لا جبر ولا تفویض بل أمر بین أمرین». فقیل له(ع): وما أمر بین أمرین؟ فقال(ع): «ذلك مثل رجل رأیته على معصیته فنهیته فلم ینتهِ، فتركته، ففعل تلك المعصیة، فلیس حیث لا یقبل منك فتركته، كنت أنت الّذی أمرته بالمعصیة».([1])

ولتوضیح هذا الحدیث الشریف وقبل التعرّض إلی کلام الشیخ أبی عبد الله المفید نقول: یحتمل أن یكون المراد أنّ الاُمور غیر مفوَّضة إلی الناس أنفسهم، وإلّا لکان کلّ من التکلیف والأمر والنهی فی غیر محلّه، كما أنّ الاختیار لم یسلب منهم، وإلّا لما کان یتحقّق منهم العصیان فی التكالیف.

وهذا البیان یكون وجیهاً فی صورة ما لو كان ‏المراد من ‏التفویض هو التفویض‏المطلق، أی: أعمّ من ‏التفویض التكوینی والتشـریعی؛ لأنّ التفویض التشریعی ینتفی بهذا البیان.

 

ویمكن أن یبیّن بهذا النحو، وهو أنّ الأمر بین الأمرین، یعنی أنّ نهی العبد عن المعصیة لا یكون سبباً عن صدّه عن المعصیة، وتركه على حاله لا یكون دافعاً له إلى المعصیة، وفی هذا الأمر (الوسط) یكون اختیاره محفوظاً لكنّه لیس بلا تکلیف ولا مفوّض إلیه.

إلّا أنّ الشیخ أبا عبد الله المفید عرّف الجبر أوّلاً فقال: هو الحمل على الفعل والاضطرار إلیه بالقهر والغلبة، وحقیقته إیجاد الفعل فی الخلق من غیر أن یكون لهم قدرة على دفعه والامتناع من وجوده فیه. ثم قال: وقد یعبّر عمّا یفعله الإنسان بالقدرة الّتی معه على وجه الإكراه له على التخویف والإلجاء، أنّه جبر، والأصل فیه ما فعل من غیر قدرة على امتناعه منه حسب ما قدّمناه، وإذا تحقّق القول فی الجبر على ما وصفناه كان مذهب أصحاب المخلوق هو بعینه، لأنّهم یزعمون أنّ الله تعالى خلق فی العبد الطاعة من غیر أن یكون للعبد قدرة على ضدّها والامتناع منها، وخلق فیه المعصیة كذلك، فهم المجبّرة حقّاً والجبر مذهبهم على التحقیق.

والتفویض: هو القول برفع الحظر عن الخلق فی الأفعال، والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات، والواسطة بین هذین القولین: أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم وحدّ لهم الحدود فی ذلك، ورسم لهم الرسوم،

 

ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخویـف والوعـد والوعیـد، فلـم یكـن بتمكینهم من الأعمال مجبّراً لهم علیها، ولم یفوّض إلیهم الأعمال لمنعهـم مـن أكثرها... الخ.([2])

وتعقیباً على ما قاله هذان الشیخان العظیمان، ینكشف بما ذكرناه آنفا من شرح توضیحیٌ لمفاد الروایة الّتی رواها الشیخ الصدوق ـ علیه الرحمة ـ أنّ التفویض عندهما جمیعاً بمعنىً واحد.

كما ینبغی أن نستدرك قائلین: إنّ التفویض اُطلق على معنیین آخرین:

أحدهما: تفویض الخلق والرزق إلی الأئمّة(ع) كما روی عن الإمام الرضا(ع)حیث قال: «من زعم أنّ الله یفعل أفعالنا ثم یعذّبنا علیها فقد قال بالجبر، ومن زعم أنّ الله فوّض الخلق والرزق إلی حججه(ع) فقد قال بالتفویض. فالقائل بالجبر كافر والقائل بالتفویض مشرك».([3])

وما یلمس من خلال هذا التعریف: أنّ مورد الجبر والتفویض لیس واحداً، فالجبر فی مورد أفعال العباد، والتفویض فی أمر الخلق والرزق، ووفقاً لهذا التعریف، فإنّ تصوّر الأمر بین الأمرین اللذین هما فی مورد واحد یكون بغیر موضوع.

 

وثانیهما: أنّ العباد فی أفـعالهم مخیّرون وهم فی غنىً واستقلال عن المدد الإلهی وقوّته، وأعمالهم تصدر دون حوله وقوّته، ولا توجد فی البین مسائل من قبیل التوفیق والخذلان.

والظاهر: أنّ المسألة الّتی اُثیرت بین المتکلّمین والأشاعرة والعدلیة فی الجبر بمعناه المذكور والتفویض، هی بهذا المعنى، والحدیث الشـریف: «لا جبر ولا تفویض بل أمر بین الأمرین»؛ والأحادیث الكثیرة الاُخری والوجوه المذكورة فی المراد من «الأمر بین الأمرین»، تشعر بهذا المعنى، وهو أنّ التفویض فی قبال الجبر، كالروایة الواردة عن محمّد بن عجلان، قال: قلت لأبی عبد الله(ع): فوّض الله الأمر إلی العباد؟ فقال: «الله أكرم من أن یفوّض الأمر إلیهم»، قلت: فأجبر الله العباد على أفعالهم؟ فقال: «الله أعدل من أن یجبر عبداً على فعل ثم یعذّبه علیه».([4])

وقال(ع) فی حدیث آخر: «الله تبارك وتعالى أكرم من أن یکلّف الناس ما لا یطیقونه، والله أعزّ من أن یكون فی سلطانه ما لا یرید».([5])

 

 

([1]) الصدوق، الاعتقادات فی دین الإمامیة، ص29.

([2]) المفید، تصحیح اعتقادات الإمامیة، ص46 ـ 47.

([3]) الصدوق، عیون أخبار الرضا، ج1، ص114؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، ج28، ص340.

([4]) الصدوق، التوحید، ص361، ح6.

([5]) الکلینی، الكافی، ج1، ص160؛ الصدوق، التوحید، ص360.

موضوع: 
نويسنده: