جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

جریان البداء وقانون العلّـیّة

 

المبحث الرابع: ربّما یسئل فیقال: كیف یجوز أن یمنع فی هذا العالم المادّی الحاكم علیه الأسباب المادّیّة، مثل صلة الرحم والصدقة والدعاء وغیرها عن تأثیر الأسباب المادّیة فی مسبّباتها؟ وكیف تؤثّر هذه الاُمور فی حصول مسبّبات مادّیة لها أسباب مادّیة اختصّت بها؟ وكیف یتغیّر بها السنن السائدة على الكون، والقواعد المحكمة الحاكمة علیها الّتی قام علیها بإذن الله‏ تعالى وتقدیره نظام هذا العالم؟ فمن یزرع الحنطة مثلاً یحصد الحنطة ولا یحصد منها الشعیر والأرزّ، ومن سعى وجدّ واجتهد یحصّل أكثر ممّن قعد وتهاون وكسل، والنار مقتضٍ للإحراق لا یمنعه من ذلك إلّا عدم وجود شرطه أو وجود مانعه المادّی.

والحاصل: أنّ تأثیر المقتضیات المادّیّة فی مقتضیاتها الّتی تكون أیضاً مادّیّة لا محالة، لیس موقوفاً على أزید ممّا نرى، وهو وجود المقتضـی والشرط وعدم المانع، وبعدَ حصول ذلك الّذی نسمّیه بالعلّة التامّة لا یتخلّف المعلول المادّی عن علّته المادّیّة.

 

أقول: کأنّ هذا القائل توهّم أنّ القائل بالبداء بمعناه الصحیح إنّما یقول بتأثیر الأسباب الغیبیّة وعالم الغیب فی عالم الشهادة فقط، فیمنع من وقوع بعض الحوادث والاُمور حتى بعد تحقّق سببه المادّی، أو تؤثّر ما له سبب مادّی بدون تحقّق سببه المادّی فلا یقع البداء فی عالم الأسباب والمسبّبات العادیّة الّتی  یدرك الإنسان استنادها إلی أسبابها بالحسّ، وغفل من أنّ ناموس البداء جارٍ فی الاُمور التكوینیة، سواءٌ کان ذلك ـ أی حصول البداء ـ بواسطة أمر مثل الدعاء وصلة الرحم، والذنوب والأعمال الصالحة، أو بواسطة أمر من الاُمور المادّیّة، فالأمر الّذی یقع فیه البداء ما لیس وقوعه من الاُمور المحتومة، بل موقوف فی كثیر من الموارد على أفعال العباد وكسبهم، سواءٌ کان هذا الفعل یعدّ سبباً عادیاً فی الأمر البدائی وجودا أو عدماً، كسعی العبد أو تكاسله عن السعی والعمل، فالّذی یقتل نفسه أو غیره لم یحكم علمه بذلك، ولیس عمله هذا من الاُمور المحتومة، والمقتول أیضاً لم یكن موته محتوماً علیه فی هذا الزمان، بل کان حیاته موقوفة على عدم حدوث ما یقطع استمرار حیاته وهو قتله، وعلى هذا المبنى یجب على الإنسان التحفّظ ودفع العدوّ. نعم، قد یكون ذلك من الاُمور المحتومة، بحیث لو لم یقتل فی هذا الوقت لکان یموت فیه بحتف الأنف، وهذا أیضاً وإن کان

 

بلحاظ أنّ موته بحتف الأنف موقوف على عدم موته بالقتل، یكون من الاُمور البدائیة إلّا أنّه بملاحظة أنّ زهوق روحه فی هذا الزمان کان محتوماً لا یقع فیه البداء وإن كان أیضاً من الاُمور البدائیة بلحاظ جواز وقوع البداء فیه عقلاً لولا كونه فی تقدیر الله‏ تعالى من الاُمور المحتومة الّتی لا یقع فیه البداء.

نعم لم یبحث عن مثل هذه الاُمور فی مبحث البداء، واختصّوا البحث فیه بالاُمور الّتی یقع تحت سیطرة عالم الغیب، وما لا یعدّ من الأسباب المادّیّة كالدعاء والصدقة وغیرها، مع أنّ ملاك البحث والنفی والإثبات بالنسبة إلیها واحد.

وبعبارة اُخرى: نقول: إنّ الأسباب سواء کانت ظاهرةً مرئیّةً محسوسة، أو كانت غیبیّةً مخفیّةً تحقّق بها مسبّباتها بإذن الله‏ تعالى وتقدیره، وتمنع عن وقوعها موانعها، سواء کانت ظاهرةً أو غیبیّةً، وحیث إنّ الکلّ مستند إلیه وهو جاعل الأسباب وفاعلها، وخالق موانعها، ویقدّرها ولو بإقداره العبد علیها، وإن کان ما یجری فی العالم یجری بإرادة الله‏ تعالى التكوینیة، فهو الماحی والمانع إذا منع ـ المانع الظاهریّ أو الغیبیّ ـ السبب، كذلك عن تأثیره وهو المثبت إذا أثّر السبب فی مسبّبه وتحقّق، سواءٌ كانا من هذا أو من ذاك، فالمرض الكذائیّ یمنع المریض

 

من أن تمتدّ حیاته إلی أجله المسمّى فیمحو الله‏ تعالى ذلك بالصدقة وصلة الرحم ویثبت حیاته ویؤخّر فی أجله، والشخص الصحیح تقتضی صحّته بقاءه إلی أجله المسمّى، ویمنع من ذلك بعض أعماله السیّئة، کلّ ذلك بإذن الله‏ تعالى وتقدیره فی نظامه الأتمّ الأحسن الّذی قرّره فی خلقه.

ویمكن أن یقرّر هذا بوجه آخر، وهو: أن یقال: إنّ الأسباب الظاهریة العادیة الّتی تتحقّق فی عالمنا المحسوس والشهادة، تقتضـی تحقّق مسبّباتها، فكما أنّه یمحى أثرها بالموانع الظاهریة، یمحى أثرها ببعض الموانع الغیبیة، فمثل صلة الرحم تدفع میتة السوء الّتی تحقّق سببها الظاهریّ، وكذلك توجب بعض الاُمور الزیادة فی العمر والرزق، إمّا لأنّ الله‏ جعل فی هذه الاُمور هذه الخواصّ، أو لأنّ الله‏ تعالى وعد عباده بأنّه یفعل ذلك عند إتیان المکلّف بها، وعلى کلا الوجهین قد دلّت الآیات والروایات، قال الله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِیدَنَّكُم﴾،([1]) وقال جلّ اسمه: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَیْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ،([2]) وقال: ﴿أَ فَرَأَیْتُمْ مَا تُمْنُونَ ‏  *

 

 أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾؛([3]) وفی الدعاء: «اللّهمّ اغفر لی الذنوب الّتی تنزل البلاء»؛([4]) والحاصل أنّ کلّ الاُمور الغیر المحتومة واقع تحت سنّة المحو والإثبات.

وثانیاً نقول: إنّ الظاهر من هذا الإیراد الاستبعاد أو إنکار سلطان عالم الغیب وتأثیر الأسباب والموانع الغیبیة على عالم الشهادة.

وهذا التوهّم إمّا ینشأ من قصر النظر إلی عالم الشهادة، والتأثّر من تسویلات الحسّیّین والمادّیّین الغافلین أو المنكرین لعالم الغیب وتأثیره فی عالم الشهادة، وإمّا ینشأ من قضاء العادة على وقوع أمر بعد أمر آخر بمشیّة الله وتقدیره، فیتوهّم أنّ هذا مقتضى تمامیة الأمر الأوّل فی العلّیّة للأمر الثانی، فلا یجوز أن یتخلّف عنه، كما لا یجوز تخلّف المعلول عن علّته التامّة، فكأنّه لم یعرف المتوهّم الفرق بین المقتضـی والعلّة التامّة، وبین العلّة وأجزائها، وبین ما یقارن وجوده وجود شیء آخر، ولم یتفطّن إلی جواز عدم إحاطة البشـر بجمیع العلل ومعلولاتها، وشرائطها وموانعها، وكون عالم الظاهر تحت سیطرة عالم الغیب، وتأثیر الأسباب الغیبیّة بإذن الله‏ تعالى فی عالم الشهادة، فیزعم العلّة ما لیس بها، ومعلولها

 

ما لیس هو، مع أنّه لا یرى شیئاً غیر وجود شیء عند وجود شیء آخر أو أشیاء اُخرى، ولم یر علیّة هذا لذاك، ولم یفهم لماذا صار هذا الأمر المادّی علّة لهذا، ولماذا صارت علّیة هذا لذاك ذاتیة له ولم تصِـر ذاتیةً لشیء آخر، ألیس هذا یعنی القول بالعلل المادیّة وأنّها من ذاتیات العلل إخباراً عن الغیب؟ وما أحسن قولهم فی تعریف المعجزة: أنّها خرق عادة یأتی بها النبیّ عند التحدّی وطلب القوم منه الآیة والمعجزة، كما جاء فی القرآن الكریم حكایةً عن فرعون فی محاجّته مع النبیّ موسى ـ على نبیّنا وآله وعلیه السلام ـ: ﴿قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآیَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِینَ‏ * فَأَلْقَى‏ عَصَاهُ فَإِذَا هِیَ ثُعْبَانٌ مُبِینٌ‏﴾.([5])

لا یقال: إنّ ما تقول ینتهی إلی نفی قاعدة العلّیّة، ولازمه تأثیر کلّ شیء فی کلّ  شیء، أو عدم تأثیر شیء فی شیء.

فإنّه یقال: إنّ القاعدة تامّة لا خدشة فیها، والعلّة التامّة کلّما وجدت لا تنفكّ عن معلولها، ولا یجوز وجود المعلول بدون العلّة، كما لا یجوز وجود الحادث بدون المحدّث القدیم ووجود المخلوق بدون الخالق، لكن لا تعرف بنفس هذه القاعدة مواردها ولا تثبت بها مصادیقها. فربما یتحقّق المقتضی والشـرط وعدم المانع فیزعم الغافل من الشـرط

 

وعدم المانع أنّ المقتضی تمام العلّة، كما ربّما یغفل من عدم المانع فیستند المعلول إلی المقتضـی والشـرط، أو بالعكس یستنده إلى المقتضی وعدم المانع.

وعلى هذا یجوز أن یمنع إرادة الله‏ القاهرة على جمیع ما سواه، النار من الإحراق، وغیر ذلك ممّا وقع فی التكوینیات على خلاف العادة وجریان الأسباب والمسبّبات العادیة.

فمن قصر نظره  إلی ما یعرف من الأسباب الظاهرة ولم یلتفت إلی غیرها ممّا یجهلها من الأسباب الظاهرة والباطنة وحكم الله‏ تعالى وسننه فی تربیة عباده، واستصلاح اُمورهم، لا یرى تخلّف المسبّبات عن الأسباب الظاهرة وتشمله هذه الآیة الكریمة: ﴿یَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.([6])

ولو طرح حجاب الغفلة والالتفات إلی ظاهر الحیاة الدنیا، یفهم أنّ سنن الله‏ تعالى لا تنحصر فیما یعرفه من قصـر نظره إلی عالم الظاهر، فالدعاء والصدقة وصلة الرحم، وإعانة الضعیف وشكر النعمة وغیرها، وكذا الظلم وقطع الرحم وغیرهما من الأعمال السیّئة تؤثّر فی وقوع كثیر من الحوادث بإذن الله‏ تعالى وسنّته، ویغیّر الله‏ تعالى لها مظاهر

 

حیاتنا المادّیة من الرخاء والخصب، ونزول الأمطار، وظهور البركات كما یغیّر بها حالات النفوس وأحوال القلوب فتشملها التوفیق أو تحرم منه وتبتلى بالخذلان. ولا نعنی بالبداء إلّا ذلك.

فیزید الله‏ تعالى بصلة الرحم فی عمر من لا یتجاوز عمره بحسب الأسباب الظاهرة ـ لولا هذه الصلة ـ من ثلاثین مثلاً إلی أربعین، أو ینقص منه بواسطة قطع الرحم مثلاً إلی عشرین، وهكذا یدفع بصلة الرحم أو الصدقة أو الدعاء عن البلاء ومیتة السوء. وكذا یؤثّر عمله فی شقاوته وسعادته، فیكتسب بالأعمال الصالحة والتوبة السعادة، فیمحو الله‏ اسمه من الأشقیاء ویثبته فی زمرة السعداء، كما هو فی اُمّ الكتاب. ولا یزید فی العمر ولا ینقص منه إلّا الله‏، ولا یدفع البلاء، ولا یكتب الشقیّ سعیداً إلّا الله‏ وملائكته العاملون الموکّلون على هذه الاُمور بأمره، إذاً فلیس لنا إلّا القول بذلك، وأنّه لم یغلق باب رحمة الله‏ على عباده، وأنّه هو الحاكم البارئ المصوّر المعزّ الخالق لما یشاء، والفاعل لما یشاء، لا إله إلّا هو العزیز الحكیم.

 

 

 

([1]) إبراهیم، 7.

([2]) الأعراف، 96.

([3]) الواقعة، 58 ـ 59.

([4]) الکلینی، الكافی، ج2، ص590.

([5]) الأعراف، 106 ـ 107.

([6]) الروم، 7.

موضوع: 
نويسنده: