پنجشنبه: 6/ارد/1403 (الخميس: 16/شوال/1445)

 

المبحث الثامن: إن قیل: جاء فی بعض الأحادیث المرویّة فی باب البداء أنّ لله علمین، علم علّمه ملائكته ورسله، فذلك لا یجیء فیه البداء، وعلم مخزون عنده لم یُطلع علیه أحداً من خلقه، فذلك الّذی یقع فیه البداء، وأنتم قد أجبتم عن الأخبار الّتی دلّت على وقوع البداء فیما علّمه الله‏ تعالى بعض رسله بحمل العلم الأوّل على الاُمور التبلیغیة وما من شأن النبیّ بیانه وإرشاد الناس إلیه والإعلام به، وأیضاً اختصاص مفاد ما دلّ على وقوع البداء فیما علّمه‌ الله‏ تعالى رسله على مواردَ ظهر وجهُ الحكمة فیها على الخلق فصار مؤیّداً للنبیّ وموجباً لمزید الإیمان به.

إذاً فكیف یوفّق بین هذه الأخبار والأخبار الّتی رواها الکلینی ـ رضوان الله‏ تعالى علیه ـ الدالّة على أنّ النبیّ والأئمّة ـ صلوات الله‏ علیهم ـ کانوا عالمین بما كان وما یكون وما هو كائن،([1]) وكیف یوجّه هذا التقسیم وحصر علمهم فیما لا یجیء فیه البداء؟

 

أقول: أوّلاً: یستفاد من قوله× فی هذه الأحادیث: «فإنّه یكون ولا یكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله»؛([2]) أنّ المراد من العلم المخزون عنده هو ما لم یُطلِع علیه أحداً بهذه الخصوصیة، أی: لمّا لم یُطلِع علیه أحداً وقوع البداء فیه، لا یستلزم تكذیب الله‏ وتكذیب ملائكته ورسله دون ما علّمه ملائكته ورسله، ومن المعلوم أنّ ما علّمه أنبیاءه إنّما یستلزم تكذیبهم لو کانوا مأمورین بإخبار القوم به، وأمّا لو لم یخبروا الناس به وعلّمهم الله‏ تعالى لیكون مخزوناً عندهم، لا یستلزم ذلك تكذیبهم، فإنّ الملائكة والأنبیاء بل والمؤمنین الكاملین لا یكذّبون الله‏ ولا رسله إذا وقع البداء فیما أخبروا عنه، إذاً لیس نفس التعلیم مستلزماً للتكذیب، بل إخبارهم الناس بما علّمهم الله‏ تعالى ووقوع البداء فیه یجعلهم معرضاً لتكذیب الجاحدین والمنافقین وضعفاء النفوس والإیمان،  وعلى هذا لا یستفاد من الحدیث ما یخالف ما یدلّ على سعة علم الأئمّة^، بل یدلّ على أنّ ما علّمهم ولم یأذن لهم بالإخبار عنه لا یقع فیه البداء، كما یدلّ بالمنطوق على أنّ الله‏ تعالى أو النبیّ أو الولیّ إذا أخبروا الناس عن أمر لا یقع فیه البداء، فالحدیث یوضح محلّ البداء، ولیس فی مقام تعیین مقدار ما یتعلّق علم النبیّ والإمام به من المغیّبات.

 

وثانیاً: ما کان مخزوناً عند الله‏ تعالى یشمل ما کان مخزوناً عند ملائكته ورسله والأئمّة^ بإذنه، ولم یأذن لهم أن یخبروا به أحداً من خلقه، بل ما یقبل التقسیم هو ما عندهم دون ما هو عنده، لأنّ هذا التقسیم إن کان بملاحظة خصوصیة فی المعلوم وامتیاز بعضه عن بعض، فلا یوجد خصوصیة فی العلم وتعدّد علم الباری جلّ شأنه، فإنّ علمه یتعلّق بکلّ ما یجوز أن یكون معلوماً ومتعلّقاً للعلم على وزانٍ واحد، فكما لا یجوز الإشارة إلی ذاته منحازاً عن صفاته، ولا یجوز الإشارة إلی صفات ذاته منحازاً عن ذاته، ولا یجوز الإشارة إلی علمه بخصوصیة تعلّقه إلی المعلوم المعیّن ممتازاً عن علمه بالمعلوم الآخر، فلا تبعّض ولا تجزئة فی علمه تعالى ولا یشار إلی علمه بالمعلوم الخاصّ، لأنّ کلّ ذلك ینتهی إلی القول بالتجزئة والتركیب الّذی ینافی القول الحقّ وعینیّة الذات والصفة واتّحادهما مصداقاً بالنسبة إلی البارئ تعالى، فلا یمكن، كما لا یمكن تصوّر حقیقتها أیضاً.

إن قلت: فكیف تقول: إنّه عالم بالجزئیات؟

 قلت: هو تعالى شأنه عالم بالجزئیات والکلّیات لا یعزب عن علمه شیءٌ، ولكن لا تعدّد ولا تكرّر لعلمه، والكثرة المتصوّرة إنّما جاءت من ناحیة معلوماته كقدرته، ولا تكثّر فی قدرته ولا یتصوّر فیه الشدّة

 

والضعف والتكرار والتعدّد، بل الشدّة والضعف یخیّل للجاهل الّذی یرى المقدورات وكرّاتها وتعدّدها وكبیرها وصغیرها فیتوهّم هذه فی حقّه تعالى.

والحاصل: أنّ التقسیم الحقیقی بالنسبة إلی صفاته الذاتیة باطل مستلزم للنقص وإثبات ما هو تعالى منزّه عنه.

والّذی یؤیّد ما قلناه من أنّ لفظة «عنده» لیست صریحة فی أنّ العلم مخزون فیه وعند نفسه، وأنّه یصحّ أن یكون مخزوناً عند ملائكته وعمّال إرادته وأنبیائه ورسله وأولیائه، ویقال: إنّه مخزون عنده، قوله تعالى: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّی فِی‏ كِتَابٍ﴾،([3]) أی: مخزون ومكتوب فی كتاب، وقوله تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛([4]) فالمراد بما هو مخزون عنده ما هو مجعول ومخزون فی وعاء مناسب من الأوعیة كنفس الملك وقلب النبیّ والولیّ واللوح المسمّى بلوح المحو والإثبات ممّا جعله بحكمته وقدرته مظاهر علمه، فهذا لیس بعلمه الحقیقیّ الذاتیّ بل یطلق علیه العلم تنزیلاً لكونه حاكیاً عنه، فالعلم المخزون محتاج إلی الخازن وإلى المخزن وهو یتصوّر بالنسبة إلی علمه تعالى إذا کان مخزوناً فی قلب النبیّ أوالولیّ أو

 

نفس الملك أو كتاب مناسب له، فالله هو الخازن، والمخزون العلم، والمخزن هو باطن النبیّ، ومع ذلك یصحّ أن یقال: إنّه مخزون عنده كما أنّه مكتوب عنده فی كتاب.

ویدلّ على أنّ العلم یطلق على ما فی الكتاب وما یحكى عنه، قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ  لَنَا﴾؛([5]) فإنّ العلم الّذی طلب منهم إخراجه لیس ما هو من الكیفیّات النفسانیّة بالنسبة إلینا، بل إنّما اُرید منه ما عندهم من الكتب والآثار.

فتلخّص من جمیع ما ذكرناه عدم دلالة هذه الأخبار على حصـر علم النبیّ والأئمّة^ بالمغیّبات فیما أخبروا عنه، هذا مضافاً إلی عدم معارضتها مع الأخبار المتواترة الدالّة على علمهم بها، سواء فی ذلك ما أخبروا عنها وما لم یخبروا عنه.

 إن قیل: كیف یوجّه مع القول بالبداء إخبار الأنبیاء والأولیاء، بل وإخبار الله‏ تعالى عن المغیّبات وما یقع فی مستقبل الزمان؛ لجواز وقوع البداء، فیها؟

أقول: أوّلاً: إنّ بعض الاُمور لیس من الاُمور الموقوفة، فلا یجیء فیه البداء.

 

وثانیاً: جواز وقوع البداء فی أمرٍ؛ غیر وقوعه أو لا وقوعه فیه، وكون أمر موقوفاً على أمر؛ لا یلازم وجود الموقوف علیه، فیجوز الإخبار بوقوع أمر بدائیّ موقوف لتعلّق العلم بوقوعه وعدم وقوع البداء فیه، كما یجوز الإخبار بعدم وقوعه فی الظرف الّذی اقتضت الأسباب الظاهرة وقوعه؛ للعلم بوقوع البداء فیه وكون وقوعه موقوفاً على أمر یعلم عدم تحقّقه، فكما یجوز الإخبار عن المغیّبات الّتی  لا یتطرّق فیه البداء، یجوز الإخبار عن وقوع الاُمور البدائیة أو لا وقوعها.

إن قیل: ما قلتم یرفع الإشكال إذا لم یقع البداء فیما أخبروا عنه، وأمّا إذا وقع فیه البداء وخالف الواقع الخبر، كما روی ذلك فی عدّة من الروایات، كیف یوجّه ذلك؟ فإنّه ینافی مصلحة النبوّات، وقاعدة اللطف، ومستلزم لنقض الغرض وتنفّر الناس عن المخبر واستنكارهم علیه، وتقبیحهم إیّاه.

فإن کان النبیّ أو الولیّ غیر عالمین بما أخبرا عنه ولو باحتمال وقوع البداء فیه، فكیف یجوز لهما الإخبار عنه من غیر أن یشترطاه بالبداء وكونه متوقّفاً على عدم حدوث بعض ما یمنع منه؟ وإن قیل: إنّ النبیّ والولیّ كانا عالمین بما أخبرا به یقال: من أین حصل لهما العلم بذلك مع علمهما بإمكان وقوع البداء فیه ومضادّة هذا العلم مع العلم بما أخبرا عنه؟

 

أقول: الجواب عن هذه الشبهة ـ بعد الغضّ عن ضعف هذه الروایات من حیث السند والمتن وعدم جواز الالتزام والاعتقاد بمفادها، وبعد أن کان یظهر ممّا ذكرناه من ذی قبل،  أوّلاً: أنّا لا نسلّم منافاة الإخبار بأمر اتّفق عدم وقوعه لعدم حصول شرطه أو وجود مانعه لمصلحة النبوّات وقاعدة اللطف، بعد ما ظهر وجه ذلك، وسیّما إذا کانت فیه مصلحة اُخرى أیضاً من مصالح النبوّات، مثل توجیه الناس إلی المعارف الإلهیة وصفاته الجلالیّة والجمالیّة وتقویة الوعی الاعتقادی وبصیرة الواعین فی الإیمان بالله وصفاته الكمالیة، وأنّه لم یزل ولا یزال قادراً ورحماناً، وكریماً، غفّاراً وهّاباً لا یشغله شأن عن شأن، وأنّه المفزع فی کلّ  نائبة، ‏مفرّج الهموم وكاشف الغموم یعفو ویصفح ویفعل ما یرید حتى لا یزعم من قلّت بصیرته أنّه فرغ من الأمر وفوّضه إلی ما یرى ویتولّد من الأسباب والفواعل الظاهرة على سبیل التسلسل، فیستند الأفاعیل إلیها على سبیل الحقیقة على نحو لم یكن لله تعالى فیه تدبیر ومشیّة، فیقول بمقالة الیهود.

قال الله‏ تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْیَهُودُ یَدُ اللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَیْدیهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ یَدَاهُ  مَبْسُوطَتَانِ﴾؛([6])

 

وقال عزّ شأنه: ﴿أَ فَرَأَیْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾؛([7])

وقال سبحانه: ﴿أَفَرَأَیْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾؛([8])

وقال تعالى جدّه: ﴿أَ فَرَأَیْتُمُ الْمَاءَ الَّذِی تَشْرَبُونَ‏ََ * أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ‏﴾.([9])

وعلى هذا لا یحكم بقبح الإخبار عن أمر لا یقع بالبداء إذا ظهر وجه الحكمة فیه، ونمنع كونه سبباً لتنفّر الناس عن النبیّ أو الإمام الّذی ثبت نبوّته أو إمامته بالمعجزة والنصّ، بل ربّما یكون ظهور الأمر للناس وأنّ ما أخبر به کان لازم الوقوع لولا انتفاء شرطه أو حدوث مانعه سبباً لقوّة إیمانهم وكمال رغبة النفوس إلیه، لأنّ أقلّ ما یستفاد من ذلك هو أنّه مطّلع على المغیّبات الّتی ربّما لا تتحقّق بالبداء.

وثانیاً نقول: إنّ الكذب لیس من العناوین المقبّحة بالذات كالظلم الّذی یحكم العقل بقبحه الذاتی؛ وبنفس عنوانه كیف اتّفق، وفی أیّ زمان اتّفق، وعلى أیّ وجه وفی أیّ مكان اتّفق.

 

وأمّا الكذب فهو مثل الضـرب المولم، وكثیر من العناوین، حسنه وقبحه یختلف بحسب اختلاف أفراده، والوجوه والاعتبارات، فبعض أفراده یقع تحت العناوین المحسّنة بالحسن الذاتی، كحفظ النفس المحترمة من الوقوع فی التهلكة، ومنع الظالم من الظلم، ودفع الخطر عن جماعة المسلمین ومصالحهم العامّة، ومثل الكذب ووضع الید على مال الغیر والتصرّف فیه، فإنّه إذا کان بإذنه أو لحفظه وإحساناً إلیه یكون حسناً لا محالة.([10])

ولو سلّم قبح مجرّد الكذب ولو لم یكن واقعاً تحت عنوان آخر من العناوین المقبّحة بالذات، فلا شكّ أنّه لیس مثل الظلم الّذی لا یمكن أن یقع حسناً، بل إذا وقع تحت أیّ عنوان یكون حسنه غالباً على قبح مجرّد الكذب بحیث یذمّ تاركه على تركه ویحكم بحسنه، وعلى أیّ حال فلا یحكم بقبح الإخبار عن وقوع أمر بحسب اقتضاء أسبابه العامّة الظاهرة وقوعه مع العلم بعدم وقوعه، أو الشكّ فی ذلك إذا ترتّبت على هذا الإخبار مصلحة مهمّة، وخصوصاً إذا دفعت حزازة الإخبار عن خلاف الواقع بظهور حقیقة الأمر، وأنّ الإخبار کان معتمداً على منشأ عقلائی، وهو العلم بوجود المقتضی والأسباب.

 

وثالثاً نقول: إنّ الموارد المذكورة فی الروایات بعضها إخبار وإنذار عن وقوع ما ینذر به لإتمام الحجّة على المنذَر (بالفتح) وتحذیره عن وقوعه فیه، وترغیبه بالتحذیر عنه بالتوبة والإنابة والصدقة وغیرها، وفی مثله یكون الخبر مشعراً بجواز وقوع البداء، وأنّ الواجب على المنذَرین التوبة والرجوع إلی الله‏ تعالى.

فتلخّص أنّه لا یثبت بهذه الأخبار أمرٌ غیر إیضاح أمر البداء وتبیین موارده، فالإخبار فیها إمّا کان اتّكالاً على القرینة الحالیة، وهی معلومیة جواز وقوع البداء فی مواردها بالإیمان والتوبة والصدقة وغیرها، كما یستفاد ذلك من قصّة قوم یونس ـ على نبیّنا وآله وعلیه السلام ـ أو کان الفرض إراءة الشاهد على ذلك لیطمئنّ به قلوب المؤمنین ویدفع به استبعاد المرتابین، والله‏ ورسوله أعلم، فارتفع الإشكال بحذافیره والله‏ الموفّق للصواب.

فإن قیل: فما تقول فی ما روی عن أمیر المؤمنین× أنّه قال: «لولا آیة فی كتاب الله‏ لأخبرتكم بما کان وبما یكون وبما هو كائن إلی یوم القیامة، وهی هذه الآیة: ﴿یَمْحُوا اللّٰهُ مَا یَشَاءُ وَیُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ([11])».([12])

وروی نحوه عن سیّدی شباب أهل الجنّة وعن الإمام زین العابدین

 

والباقر وأبی عبد الله‏^،([13]) فإنّه یدلّ على أنّهم غیر عالمین بالوقائع البدائیة والاُمور الموقوفة.

أقول: لیس المراد منه لولا هذه الآیة لكانوا عالمین بما کان وبما یكون وبما هو كائن، ولكنّ الآیة ونظام البداء السائد بإذن الله‏ على اُمور الخلق منعهم عن العلم بذلك، بل الظاهر أنّ المراد التنبیه على أنّهم^ إنّما امتنعوا عن إظهار ما عندهم من العلوم وبیان ما یقع فیه البداء وما لم یقع، لأنّ المصالح المتضمّنة فی نظام البداء المحقّقة لمصالح النبوّات وكمال النفوس فی المعارف الإلهیة لا تتحصّل إلّا بخفاء العلم بمواردها على الناس، فالإخبار بکلّ ذلك أو بجلّها ینافی المصالح العظیمة الكامنة فی نظام المحو والإثبات، ویشعر بل یدلّ على ذلك کلام مولانا أمیر المؤمنین× فی خطبته بعد النهروان: «وأیمُ الله‏ لولا أن تنکلوا وتدَعوا العمل، لحدّثتكم بما قضی الله‏ على لسان نبیّكم|»؛([14]) إذاً فلا دلالة لمثل هذا الحدیث على أنّه لولا هذه الآیة وهذا النظام الكامل التامّ لكنّا عالمین بما یكون إلى أن تقوم الساعة، فإنّ هذا ـ مضافاً إلی أنّه لا یستفاد من هذه الأحادیث ـ یُردّ بالأخبار الكثیرة المتواترة الدالّة على أنّهم عالمون بما

 

یكون إلی قیام الساعة.([15])

قال مولانا أمیر المؤمنین×: «والله‏ لو شئت أن اُخبر کلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجمیع شأنه لفعلت، ولكن أخاف أن تكفروا فیّ برسول الله|، ألا وإنّی مفضیه إلی الخاصّة ممّن یؤمَن ذلك منه، والّذی بعثه بالحقّ واصطفاه على الخلق ما أنطِق إلّا صادقاً، ولقد عهد إلیّ بذلك کلّه وبمهلك من یهلك، ومنجى من ینجو، ومآل هذا الأمر، وما أبقى شیئاً یمرّ على رأسی إلّا أفرغه فی اُذُنیَّ وأفضى به إلیّ».([16])

وقال×: فی خطبة ذكر فیها طائفة من الملاحم: «سلونى قبل أن تفقدونی ـ إلى أن قال: ـ والّذی نفسی بیده لا تسألونی عن شیء فیما بینكم وبین الساعة ولا عن فئة تضلّ مأة أو تهدی مأة إلّا نبّأتكم بناعقها وقائدها وسائقها».([17])

قال السیّد الأجلّ شارح الصحیفة إنجیل أهل البیت وزبور آل محمّد ـ صلوات الله‏ علیهم ـ فی الروضة الثانیة والأربعین:

تواترت الأخبار عن العترة الزاكیة، وأجمعت الأصحاب من الفرقة الناجیة أنّ أمیر المؤمنین ـ صلوات الله‏ علیه ـ والأوصیاء من أبنائه، علموا جمیع ما فی القرآن علماً قطعیّاً بتأیید إلهیّ، وإلهام ربّانیّ، وتعلیم

 

نبویّ، وقد طابق العقل فی ذلك النقل، وذلك أنّ الإمام إذا لم یعلم جمیع ما فی القرآن لزم إهمال الخلق، وبطلان الشرع، وانقطاع الشریعة، وکلّ ذلك باطل بحكم العقل والنقل.([18])

ومن الأخبار ما ورد من طرق العامّة عن أبی الطفیل، قال: شهدت علیّاً× یخطب وهو یقول: «سلونی فوالله‏ لا تسألونی عن شیء إلّا أخبرتكم، وسلونی (واسألونی) عن كتاب الله‏، فو الله‏ ما من آیة إلّا وأنا أعلم بلیل نزلت أم بنهار، أم فی سهل أم فی جبل».([19])

وقال أبو نعیم فی حلیة الأولیاء: عن ابن مسعود، قال: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، وما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن، وإنّ علیّ بن أبی طالب عنده علم الظاهر والباطن.([20])

وأیضاً أخرج من طریق أبی بكر بن عیّاش، عن نصیر، عن سلیمان الأحمسی، عن أبیه عن علیّ× قال: «والله‏ ما نزلت آیة إلّا وقد علمت فیمَ اُنزلت، وأین اُنزلت، إنّ ربّی وهب لی قلباً عقولاً، ولساناً سؤولاً».([21])

 

وأمّا الروایات فی ذلك من طرق الخاصّة فأكثر من أن تحصى، منها ما رواه ثقة الإسلام بسند حسن عن جابر، قال: سمعت أبا جعفر× یقول: «ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن کلّه كما أنزل الله‏ إلّا كذّاب، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله‏ تعالی إلّا علیّ بن أبی طالب× والأئمّة من بعده^».([22])

وعن سیّدنا أمیر المؤمنین×: «إنّ فیه (القرآن) علم ما مضـى وعلم ما یأتی إلى یوم القیامة، وحكم ما بینكم، وبیان ما أصبحتم فیه تختلفون، فلو سألتمونی عنه لعلّمتكم».([23])

وعن أبی جعفر× أنّه قال: «ما یستطیع أحد أن یدّعی أنّ عنده جمیع القرآن کلّه ظاهره وباطنه غیر الأوصیاء».([24])

وعنه×: «إنّ مِن علم ما اُوتینا تفسیر القرآن».([25])

وعن عبد الأعلى بن أعین قال: سمعت أبا عبد الله‏× یقول: «والله‏ إنّی لأعلم كتاب الله‏ من أوّله إلی آخره فكأنّه فی كفّی، فیه خبر السماء وخبر ما

 

كان وخبر ما هو كائن، قال الله‏ عزّ وجلّ: «فیه تبیان کلّ شیء».([26])

قال بعض المحقّقین: قوله×: «كأنّه فی كفیّ»، تنبیه على أنّ علمه× بما فی الكتاب علم شهودیّ بسیط واحد بالذات متعلّق بالجمیع، كما أنّ رؤیة ما فی الكفّ رؤیة واحدة متعلّقة بجمیع أجزائه، والتعدّد إنّما هو بحسب الاعتبار، وقوله×: «فیه خبر السماء»، یعنی من أحوال الأفلاك وحركاتها، وأحوال الملائكة ودرجاتها، وحركات الكواكب ومداراتها، ومنافع تلك الحركات وتأثیراتها، إلى غیر ذلك من الاُمور الكائنة فی العُلویّات، والمنافع المتعلّقة بالفلکیّات،([27]) وقوله×: «وخبر الأرض»، یعنی من جوهرها وانتهائها، وما فی جوفها وأرجائها، وما فی تحتها وأهوائها، وما فیها من المعدنیّات، وما تحت الفلك من البسائط والمركّبات الّتی تتحیّر فی إدراك نبذ منها عقول البشـر، ویتحسّـر دون بلوغ أدنی مراتبها طائر النظر، وقوله×: «خبر ما کان وما هو كائن» أی: من أخبار السابقین، وأخبار اللاحقین کلّیّاتها وجزئیّاتها، وأحوال الجنّة ومقاماتها، وتفاوت مراتبها ودرجاتها، وأخبار المثاب فیها بالانقیاد والطاعة والمأجور فیها بالعبادة والزهادة، وأهوال النار ودركاتها،

 

وأهوال مراتب العقوبة ومصیباتها، وتفاوت مراتب البرزخ فی النور والظلمة، وتفاوت أحوال الخلق فیه بالراحة والشدّة، کلّ ذلك بدلیل قوله تعالى: «فیه تبیان کلّ شیءٍ»،([28]) أی: كشفه وإیضاحه، فلا سبیل إلی إنكاره، والله‏ أعلم.([29]) انتهى کلام شارح الصحیفة.

هذا آخر ما وفّقنا بتحریره حول البداء، والحمد لله ربّ العالمین، وصلواته وسلامه على رسوله الأمین، وأهل بیته الطاهرین، وقد تمّ تحریر ذلك فی شهر ذی القعدة الحرام من شهور سنة 1405 الهجریة القمریة، وقد تجنّبنا فی هذه الرسالة عن الاستشهاد بمخترعات الفلاسفة أذناب الیونانیّین وأتباعهم من المنتحلین إلى المذاهب الإسلامیة، اُولئك الّذین لم یهتدوا بهدى أهل بیت الوحی والنبوّة^، وسلكوا سبلاً متشعّبة أبعدتهم عن التمسّك بالثقلین.

وأنا أقلّ العباد لطف الله‏ الصافی الگلپایگانی ابن العالم الفقیه المرحوم المولى محمّد جواد الصافی غفر الله‏ تعالى له ولوالدیه، وحشـرهم مع ساداته الأنجبین علیهم الصلاة والسلام.

 

 

([1]) الکلینی، الکافی، ج1، ص260 ـ 262.

([2]) الصدوق، التوحید، ص444.

([3]) طه، 52.

([4]) الرعد، 39.

([5]) الأنعام، 148.

([6]) المائدة، 64.

([7]) الواقعة، 58 ـ 59.

([8]) الواقعة، 63 ـ 64.

([9]) الواقعة، 68 ـ 69.

([10]) یستفاد ذلك من القرآن المجید فی ما حكاه من قصّة موسى وعبد من عباد الله‏. الکهف، 65 ـ 82.

([11]) الرعد، 39.

([12]) الطبرسی، الاحتجاج، ج1، ص384؛ المجلسـی، بحار الأنوار، ج4، ص97، أبواب الصفات، ب3، ح4.

([13]) المجلسی، بحار الأنوار، ج4، ص97، ب3، ح4 و5.

([14]) الثقفی الکوفی، الغارات، ج1، ص7.

([15]) الکلینی، الكافی، ج2، ج1، ص240، 260 ـ 262.

([16]) نهج البلاغة، الخطبة 175 (ج2، ص89 ـ 90).

([17]) الثقفی الکوفی، الغارات، ج1، ص7 ـ 9.

([18]) المدنی الشیرازی، ریاض السالکین، ج5، ص435 ـ 436.

([19]) الإربلی، کشف الغمّة، ج1، ص114؛ ابن عبد البرّ، الاستیعاب، ج3، ص1107؛ السیوطی، الإتقان، ج2، ص493؛ المجلسی، بحار الأنوار، ج40، ص179.

([20]) أبو نعیم الأصفهانی، حلیة الأولیاء، ج1، ص65.

([21]) أبو نعیم الأصفهانی، حلیة الأولیاء، ج1، ص67 ـ 68؛ المدنی الشیرازی، ریاض السالکین، ج5، ص436.

([22]) الصفّار، بصائر الدرجات، ص213؛ الکلینی، الكافی، ج1، ص228، ح1.

([23]) الکلینی، الكافی، ج1، ص60 ـ 61، ح7؛ المدنی الشیرازی، ریاض السالکین، ج5، ص437.

([24]) الکلینی، الكافی، ج1، ص228، ح2.

([25]) الکلینی، الكافی، ج1، ص229، ح3.

([26]) الکلینی، الكافی، ج1، ص229، ح4.

([27]) المجلسی، مرآة العقول، ج3، ص33.

([28]) إشارة إلی الآیة 89 من سورة النحل.

([29]) المدنی الشیرازی، ریاض السالکین، ج5، ص437 ـ 438.

موضوع: 
نويسنده: