جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الأمر الثانی:
فی الوضع

قوله+: «الوضع هو: نحو اختصاص للّفظ بالمعنى، وارتباط خاصّ بینهما([1]) ناشٍ من تخصیصه به تارة، ومن كثرة استعماله فیه اُخرى».

أقول: أراد بالوضع، كون اللفظ موضوعاً للمعنى على أن یكون مصدراً مبنیّاً للمفعول أو اسم مصدر.

وأراد بالاختصاص، كونه ذا خصوصیّة وارتباط بالنسبة إلى المعنى، لا كونه مختصّاً به حتى یخرج وضع المشتركات.

 

ولم یبیّن نوع الخصوصیّة، إذ هو من شرح الاسم، والغرض منه الإشارة إلى ما هو المراد من المعانی الحاضرة فی الذهن، لا بیان ماهیة مجهولة. وعدل عمّا هو المعروف من أنّه تعیین اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه،([2]) لعدم شموله للتعیّنی ولا لوضع الإنشاءات؛ مع أنّ هذا هو المعنى الّذی تترتّب علیه أحكام الوضع من الحجّیة وغیرها وتؤدّی إلیه أماراته لا ما ذكروه.

فحاصله: أنّ كون اللفظ موضوعاً لمعنى عند قوم، هو كونه عندهم آلة لهذا المعنى إفهاماً أو إنشاءً، وتقسیمه حینئذٍ إلى التعیینی والتعیّنی تقسیم له باعتبار مسبّبه، لكنّ الوضع بهذا المعنى لیس غیر الدلالة الشأنیة، كما لا یخفى.

قوله+: «ثم إنّ الملحوظ حال الوضع: إمّا یكون معنىً عامّاً، فیوضع اللفظ له تارة ولمصادیقه اُخرى؛ وإمّا یكون معنىً خاصّاً، لا یكاد یصحّ إلّا وضع اللفظ له».

أقول: لمّا كان الوضع نسبة بین اللفظ والمعنى كان التعیینی منه موقوفاً على تصوّر الواضع كلّاً منهما حتى یضع هذا لذاك، فباعتبار ملاحظته المعنى ووضعه اللفظ له قسّموه إلى الأقسام الثلاثة المذكورة فی المتن، وباعتبار ملاحظته اللفظ ووضعه إیّاه للمعنى قسّموه أیضاً إلى الوضع الشخصی والنوعی، فقالوا: إن تصوّر لفظاً خاصّاً ووضعه لمعنى فهو شخصـی، وإن لاحظ عنواناً كلّیاً صادقاً على ألفاظ كثیرة فوضع كلّ فرد من أفراده الملحوظة إجمالاً بلحاظه لمعنى فهو نوعی، ومثّلوه بوضع صیغ الأفعال والأوصاف، وذلك لأنّهم لمّا رأوا أنّ الفعل الموزون بزنة «فَعَلَ» بالفتحات الثلاث مثلاً معناه مع قطع النظر عن اختلاف الموادّ واحد، وهو قیام معنى مصدره بمعنى الاسم المرفوع بعده إذا كان مفرداً مذكّراً فی الزمان الماضی، واستبعدوا أن یكون الواضع وضع كلّ واحد من أفراده لهذا المعنى المتشابه بوضع مستقلّ على حدّة، تحدّسوا من ذلك أنّه

 

لاحظ هذا المفهوم الكلّی ووضع کلّ فرد منه ـ من أیّ مصدر كان ـ لقیام معناه بما بعده كذلك بوضع واحد ینحلّ إلى أوضاع كثیرة، وهكذا غیرها من الصیغ.

وعلى هذا فلك أن تقول: إنّه لا یتعیّن أن یكون الموضوع لذلك المعنى مجموع المادّة والهیأة من «ضرب» بالفتحات الثلاث مثلاً، حتى یقال: إنّ الواضع لاحظه وسائر ما یكون على وزنه إجمالاً بلحاظ مفهوم الموزون هكذا، إذ یمكن أن یكون الموضوع لهذا المعنى هیأته الّتی تقوم بنفسها بموادّ المصادر، وهی بنفسها ملحوظة للواضع تفصیلاً بنفسه، لا بمفهوم آخر صادق علیها وعلى غیرها، وعلیه فیكون وضعها شخصیاً وإن كانت هی كلّیة لصدقها على حصصها القائمة بکلّ مادّة من الموادّ وعلى أشخاصها، ولعلّه لهذا ترك المصنف+ ذكر هذا التقسیم.

قوله+: «وأمّا الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، فقد توهّم([3]) أنّه وضع الحروف، وما اُلحق بها من الأسماء،([4]) كما توهّم أیضاً أنّ المستعمل فیها([5]) یكون خاصّاً مع كون الموضوع له كالوضع عامّاً، والتحقیق: أنّ حال المستعمل فیه والموضوع له فیهما حالهما فی الأسماء».

أقول: تحقیق كیفیة وضع الحروف من هذه الجهة موقوف على بیان معانیها، وتوضیح جهة الفرق بینها وبین الأسماء الّتی تذكر فی مقام تفسیرها على وجه یتراءى منه ترادفها، كلفظتی «من» و«الابتداء» أو «إلى» و«الانتهاء» أو «فی»

 

و«الظرفیة» وأشباهها، مع أنّا نرى أنّه لا یصحّ استعمال أحدهما فی موضع الآخر، ولا وقوع «من» و«إلى» و«فی» محكوماً علیه أو به كما یقع الابتداء والانتهاء والظرفیّة كذلك. ومعلوم أنّه لیس ذلك إلّا لفارق وضعیّ بینهما وهو ینافی الترادف وصحّة تفسیر أحدهما بالآخر.

والحاصل: أنّ معنى «من» و«الابتداء» مثلاً، إن كان واحداً كان اللازم صحّة استعمال کلّ منهما فی موضع الآخر وجواز وقوع «من» محكوماً علیه وبه كالابتداء، لکنّه لا یجوز. وإن لم یكن واحداً لم یصحّ تفسیر «من» بالابتداء، لکنّه صحیح لعدم فهم العرف منها سوى الابتداء، وصحّة الملازمتین كبطلان التالیین واضحة، فینتجان بطلان المقدّم فی كلتی الشرطیّتین، وهو ارتفاع النقیضین، وبطلانه ضروری. وهذه عقدة([6]) صعب حلّها على كثیر من الأفهام واختلفت عبارات أهل النظر فی الجواب عنها.

فقال الرضیّ& فی شرح ما قالوه من «أنّ الاسم ما دلّ على معنى فی نفسه، والحرف ما دلّ على معنى فی غیره» بعد ما أرجع ضمیری نفسه وغیره إلى «ما» المراد بها الكلمة، وأبطل إرجاعهما إلى المعنى،([7]) ما هذه عبارته: «إنّ معنى «من» الابتداء، فمعنى «من» ومعنى لفظ الابتداء واحد،([8]) إلّا أنّ الفرق بینهما أنّ لفظ الابتداء لیس مدلوله مضمون لفظ آخر، بل مدلوله معناه الّذی فی نفسه مطابقة،

 

ومعنى «من» مدلول([9]) لفظ آخر ینضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلی، فلهذا جاز الإخبار عن لفظ «الابتداء» فی قولك: «الابتداء خیر من الانتهاء»، ولم یجز الإخبار عن لفظ «من» لأنّ الابتداء الّذی هو مدلولها فی لفظ آخر، فكیف یخبر عن لفظ لیس معناه فیه بل فی لفظ غیره؟ وإنّما یخبر عن الشـیء باعتبار المعنى الّذی فی نفسه مطابقة. فالحرف وحده لا معنى له أصلاً، إذ هو كالعَلَم المنصوب بجنب شیءٍ لیدلّ على أنّ فی ذلك الشـیء فائدة مّا، فإذا أفرد عن ذلك الشیء بقی غیر دالّ على معنى [فی شیء([10])] أصلاً».

ثم اعترض على نفسه: بأنّ «طویلاً» فی قولك: «رأیت رجلاً طویلاً» موجد لمعناه وهو الطول، فی لفظ آخر وهو «رجلاً»، مع أنّه لیس بحرف.

وأجاب: بأنّ معناه لیس هو الطول فقط، بل من له الطول مأخوذ فیه أیضاً على وجه الإجمال، وإنّما یتعیّن بالموصوف.

ثم اعترض بالمصدر المضاف كضرب زید، إذ لیس من له الضرب مأخوذاً فیه، فهو موجد لمعناه فی لفظ غیره.

وأجاب: بأنّه وإن كان كذلك فی المثال، لكنّ المصدر لم یوضع لذلك، لصحّة قولنا: «الضرب شدید» بدون الإضافة إلى من له الضرب.([11]) انتهى ما أردناه.

ویرد علیه بظاهره، مضافاً إلى أنّه لم یزد المطلب إلّا إعضالاً، أنّ هذا المعنى بعد فرض وحدته، كیف یكون إذا أفاده لفظ «الابتداء» مدلولاً لنفسه وإذا أفادته لفظة

 

«من» مدلولاً للفظ آخر منضافاً إلى مدلوله الأصلی؟ مع أنّ هذا لا یخلو من تهافت بل لا یتصوّر له معنىً معقول.

وقال بعض من تأخّر([12]) عنه، فی توضیح ما ذكره بعضهم فی شرح التعریفین المذكورین، بعد إرجاع الضمیرین فیهما إلى المعنى، من قوله: أی ما دلّ على المعنى بلحاظه فی نفسه، أو لا بلحاظه فی نفسه بل فی متعلّقه، ما هذه عبارته بأدنى تغییر: «كما أنّ فی الخارج موجوداً قائماً بذاته وموجوداً قائماً بغیره، كذلك فی الذهن معقول هو مدرَك قصداً ملحوظاً فی ذاته یصلح لأن یحكم علیه وبه، ومعقول هو مدرَك تبعاً وآلة لملاحظة غیره فلا یصلح لهما، فالابتداء مثلاً إذا لوحظ قصداً وبالذات كان معنىً مستقلاً بالمفهومیة، ولزمه تعقّل متعلّقه إجمالاً وتبعاً من غیر حاجة إلى ذكره، وهو بهذا الاعتبار مدلول لفظ الابتداء، بلا حاجة إلى ضمّ ما یدلّ على متعلّقه؛ وإذا لوحظ من حیث هو حالة بین السیر والبصرة مثلاً وجعل آلة لتعریف حالهما كان معنىً غیر مستقلّ بالمفهومیة، ولا یصلح لأن یحكم علیه وبه، ولا یتعقّل إلّا بتعقّل متعلّقه بخصوصه، ولا یمكن أن یدلّ علیه إلّا بضمّ ما یدلّ على متعلّقه.

والحاصل: أنّ لفظ «الابتداء» موضوع لمعنى كلیّ ولفظة «من» لكلّ واحد من جزئیاته المخصوصة المتعلّقة من حیث إنّها حالات لمتعلّقاتها، وآلات لتعرّف أحوالها، وذلك الكلّی یمكن أن یتعقّل قصداً ویلاحظ فی حدّ ذاته فیستقلّ بالمفهومیة ویصلح أن یحكم علیه وبه، بخلاف تلك الجزئیّات فلا تستقلّ بها ولا تصلح لهما».([13]) انتهى.

 

وبمثل هذا فرّق بینهما شیخنا العلّامة+ أیضاً فی مواضع من هذا الكتاب([14]) وغیره، لکنّه كما ترى أنكر كون «من» موضوعة للجزئیات. ولعلّ الظاهر من كلام ذاك القائل أیضاً أنّ مناط الفرق لیس هو الكلیة والجزئیة، بل اللحاظ على وجه الاستقلال والآلیة، لکنّه زعم أنّ الثانی لا یكون إلّا فی جزئیاته، فهو حینئذٍ بحث آخر یأتی بیانه.

ثم إنّ هذا البیان وإن كان أقلّ إعضالاً من الأوّل، لکنّه لعدم بیانه حقیقة هذین اللحاظین ربما یورد علیه: بأنّ هذا المعنى الواحد كیف یلحظ تارة قصداً وبالذات، واُخرى حالة بین شیئین وتبعاً لهما وآلة لتعرّف حالهما؟ وأیّ معنى لهذین اللحاظین؟ وأیضاً فهذا المعنى الّذی لیست ماهیته إلّا الإضافة بین شیئین، كیف یسلب عنه ذلك ویصیر معنىً ملحوظاً على وجه الاستقلال؟ وهل یكون هذا إلّا سلباً للشیء عن نفسه؟

وذكر بعض المتأخّرین:([15]) أنّ لفظ الابتداء والانتهاء والظرفیّة وأشباهها موضوعة للإضافات المخصوصة الّتی تفهم منها، ولفظة «من» و«إلى» و«فی» للارتباطات الحاصلة بین معانی المتعلّقات بسبب هذه الإضافات. انتهى.

وربما یورد علیه: بأنّ الإضافات المذكورة وأشباهها لیست ماهیّاتها إلّا الارتباطات بین المعانی، فلیست الارتباطات بینها شیئاً غیرها حتى یصحّ جعلها معانی للأسماء، وجعل الارتباطات الحاصلة بها معانی للحروف.

ولعلّ منشأ هذه الإیرادات هو عدم وفاء عباراتهم بأداء مقاصدهم على ما هو حقّه، وإلّا فبعد تحقیق المسألة یتبیّن أنّه یمكن تنزیل جمیعها علیه.

 

فتحقیق المقام هو:

إنّ ارتباط أحد الأمرین إلى الآخر جوهرین كانا أو عرضین أو مختلفین، وكلّیّین كانا أو جزئیّین أو مختلفین، بأیّ نحو من أنحاء الارتباط من العلیّة والمعلولیّة، والتقدّم والتأخّر، والظرفیّة والمظروفیّة، والأوّلیة والآخریّة، وأشباهها لا تحقّق له فی نفس الأمر بغیر وجود طرفیه بما لهما من الخصوصیّة هو المنشأ لانتزاع تلك الإضافات، ولا معنى لتحقّقها فی نفس الأمر سوى ذلك.

نعم، للعقل أن ینتزعها من خصوصیّة الطرفین، ویتصوّرها أشیاء بحیالها وعلى وجه الاستقلال، لکنّها حینئذٍ تخرج عن كونها ارتباطاً بین شیئین بالحمل الشائع وإن كان ارتباطاً بالحمل الذاتی. فكون شیئین مرتبطین بالحمل الشائع لا یكون فی الخارج ولا فی الذهن إلّا بأن یكون الارتباط مندكّاً فیهما موجوداً بعین وجودهما.

ولمّا كانت الحاجة ماسّة فی المحاورات إلى تفهیم الارتباطات على كلا الوجهین، فتارة: یرید تصویرها للمخاطب فی نفسها بحیث یتصوّرها ممتازة عن غیرها من المفاهیم، واُخرى: یرید تصویر طرفیها مرتبطین بشیءٍ من الارتباطات، فلا جرم كانت الألفاظ الموضوعة لها قسمین:

فمنها: ما وضع لإفادتها بعد انتزاعها من طرفیها، وصیرورتها أشیاء بحیالها. وهذا القسم یكون كسائر الألفاظ الدالّة على المعانی المستقلّة من الجواهر والأعراض، متى سمع شیء منها فهم معناه بلا حاجة إلى غیره.

ومنها: ما وضع لإفادتها حال كونها ارتباطاً حقیقیّاً بالحمل الشائع، أی وضع لیفید كون الطرفین مرتبطین كذلك. ولا یمكن ذلك إلّا بأن یكون موضوعاً لأن یجعل فی الكلام بجنب اللفظین الدالّین على طرفی الارتباط، لا لأن یتصوّر بحذائه ذلك الارتباط حتى یخرج عن كونه ارتباطاً حقیقیّاً، وینتقض الغرض، بل لأن یفهم بسببه

 

ما یفهم من اللفظین من المعنى متخصّصین بخصوصیّة تكون منشأً لانتزاع ذلك الارتباط منهما إذا نظر إلیهما العقل بنظر آخر غیر هذا النظر الّذی یكون الارتباط بحسبه ارتباطاً بالحمل الشائع ومندكّاً فی الطرفین. فهذا القسم هی الحروف الدالّة علیها، والقسم الأوّل أسماؤها.

ویدلّ على ذلك أنّك إذا سمعت قائلاً یقول: «السیر»، «الصدور»، «زید»، «الابتداء»، «البصرة»، «الانتهاء»، «الكوفة» تصوّرت معانی بعضها جواهر وبعضها   أعراض وبعضها ارتباطات بالحمل الذاتی، من [دون] أن تفهم أنّ شیئاً منها مرتبط إلى آخر بشـیءٍ من الارتباطات.

وإذا سمعته یقول: «سار زید من البصرة إلى الكوفة» فهمت وجود سیر مرتبط إلى زید بصدوره منه، وإلى البصرة والكوفة باقتطاعه عندهما أوّلاً وآخراً؛ فیعلم بذلك أنّ ألفاظ «الصدور» و«الابتداء» و«الانتهاء» توجب تصوّر تلك المفاهیم المنتزعة المستقلّة، بخلاف هیأة الفعل والفاعل و«من» و«إلى» الواقعتین بین المتعلّق والمجرور، فإنّها تفید السیر المرتبط إلى زید والبصرة والكوفة، أی تفید منشأ انتزاع هذه المفاهیم. ولهذا لا یصحّ استعمال کلّ منهما فی موضع الآخر؛ لأنّ كیفیّة عملهما فی المعنى مختلفة، بل فی غایة المباینة. ولا یمكن وقوع الحرف محكوماً علیه وبه؛ إذ لیس له معنىً متصوّر بحذائه حتى یحكم علیه أو به، وما یفیده أمر مندكّ فی معنى طرفیه، ولذا قال الرضیّ: فكیف یخبر عن لفظ لیس معناه فیه بل فی لفظ آخر، بخلاف القسم الأوّل؛ فإنّ معناه أمر متصوّر یكون بحذائه. ولا ینافی ذلك قولهم: «من» للابتداء، فإنّه فی مقام بیان ما تفیده لفظة «من» من أنحاء الارتباطات، فلابدّ من ذكر ما یفیده تصوّراً بعد الانتزاع، وهو لفظ الابتداء.

فظهر بما ذكرناه أنّ لفظة «من» لا یقع بحذائها شیء من المعنى مطلقاً، بل ولا تفید

 

أیضاً فائدة إلّا إذا ضمّت إلى لفظی الطرفین، فحینئذٍ تفید تخصّص الطرفین بما ذكرناه من الخصوصیّة. وهذا هو مراد الرضیّ+ بقوله: «فالحرف وحده لا معنى له أصلاً، إذ هو كالعَلَم المنصوب بجنب شیءٍ لیدلّ على أنّ فیه فائدة مّا، فإذا افرد عنه بقی غیر دالّ على معنى فی شیءٍ»، وقوله: «ومعنى «من» مدلول لفظ آخر ینضاف إلى معناه الأصلی». فاندفع بهذا ما أوردنا علیه سابقاً من التناقض.

فكلامه& فی غایة التحقیق، ولكن تسلیمه الاعتراض بالمصدر المضاف واعتذاره عنه بأنّه لیس بالوضع، كأنّه أجنبیّ عمّا هو التحقیق، ولا ینبغی صدوره من مثله؛ فإنّ «الضرب» له معنى یقع بحذائه، غایة الأمر أنّه قائم بغیره، ولذا یمكن أن یحكم علیه وبه، وأین هو من الحروف الّتی لا یقع بحذائها شیء من المعنى أصلاً، وإنّما یكون ما تفیده فیما بحذاء لفظی الطرفین؟ ومن هنا یكون إرجاع الضمیر فی قولهم: «الحرف ما دلّ على معنى فی غیره» إلى اللفظ أولى من إرجاعه إلى المعنى، لصدقه على التقدیر الثانی على ألفاظ الأعراض مع أنّها لیست بحروف، فتدبّر.

إذا عرفت ما ذكرناه، تبیّن لك أنّ ما أفاده المصنّف+ فی مسألة المشتقّ([16]) من افتراق الإسم والحرف فی كیفیّة الإستعمال فی المعنى، وهو المراد بما أفاده هنا من كون افتراقهما فی الوضع،([17]) فی غایة الجودة. ولكن ما ذكره من أنّ ما یستعمل فیه

 

لفظة «من» هو عین ما یستعمل فیه لفظ الإبتداء،([18]) وهو المعنى الكلّی المجرّد عن جمیع الخصوصیّات عند استعمالها فیه وإن كان یتقیّد بعدُ بمدالیل الألفاظ الاُخر؛ كأنّه بعید من الصواب.

انتهى ما كان عندنا من حاشیة سیّدنا الاُستاذ+ ـ بإنشائه وقلمه الشریف ـ على الكفایة.

 

 

 

([1]) لا ریب فی اختصاص اللفظ بالمعنی وارتباطه به، وإنّما الإشکال فی حقیقة هذا الاختصاص والارتباط، فاختلفوا فی حقیقة الوضع، هل هو من الاُمور التکوینیة الواقعیة، أو من الاُمور الاعتباریة الجعلیة؟

فذهب عباد بن سلیمان الصیمری وأصحاب التکسیر ـ کما فی القوانین (القمی، ج1، ص194) ـ إلی أنّه أمر واقعی تکوینی، وأنّ دلالة اللفظ علی المعنی إنّما نشأت من مناسبة ذاتیّة.

وذهب النائینی + إلی أنّه أمر وسط بین التکوینی والجعلی وبرزخ بینهما. النائینی، أجود التقریرات، ج1، ص11- 12.

ثم اختلف القائلون بأنّه اعتباری وجعلی علی أقوال:

الأوّل: أنّه عبارة عن جعل الارتباط بین اللفظ والمعنی واعتباره بینهما.

الثانی: أنّه عبارة عن جعل اللفظ علی المعنی.

الثالث: أنّه عبارة عن تنزیل اللفظ منزلة المعنی.

الرابع: أنّه عباره عن التعهّد والبناء علی ذکر اللفظ عند إرادة تفهیم المعنی الخاصّ.

راجع: الرشتی، بدائع الأفکار، ص34 وما بعدها؛ الأصفهانی، نهایة الدرایة، ج1، ص44 وما بعدها.

([2]) الرشتی، بدائع الأفکار، ص34.

([3]) المتوهّم جماعة، منهم: صاحب الفصول فی فصوله (الأصفهانی، ص16)؛ وصاحب المعالم فی معالمه (العاملی، ص124)؛ وشارحه فی هدایة المسترشدین (الأصفهانی، ص30)؛ وصاحب القوانین فی قوانینه (القمّی، ج1، ص10، 287، 289).

([4]) کأسماء الإشارة والضمائر والموصولات والاستفهام ونحوها.

([5]) فی بعض نسخ الکفایة: «المستعمل فیه فیها».

([6]) وعبّر عنه فی الکفایة (الخراسانی، ج1، ص19) بأنّه: «دقیق وقد زلّ فیه أقدام غیر واحد من أهل التحقیق والتدقیق». وهو  کذلك فیختار هو مختار الرضیّ+ بأنّه لا فرق بین المفهوم الحرفی والاسمی فی عالم المفهوم، والاختلاف بینهما ناشٍ من اشتراط الواضع. وهذا القول فی حدّ الإفراط. وفی قباله القول بأنّ الحروف لم توضع لمعنی أصلاً، وأنّ حالها حال علامات الإعراب وهذا فی حدّ التفریط، وفی البین آراء وأقوال انظرها فی: فوائد الاُصول، لصاحب الکفایة، فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی)، ج1، ص33 وما یلیها، للشیخ الکاظمی، أجود التقریرات، ج1، ص14 وما بعدها.

([7]) وصاحب الکافیة یرجع الضمیرین إلی المعنی، کذا فعله فی الإیضاح. ویناقشه الرضیّ فی شرح الکافیة (ج1، ص35 36).

([8]) فی المصدر، «سواء».

([9]) فی المصدر، «مضمونه».

([10]) ما بین المعقوفین لیس فی المصدر.

([11]) رضی الدین الأسترآبادی، شرح الکافیة، ج1، ص38.

([12]) وهو السیّد شریف علیّ بن محمد الجرجانی المتوفّی بشیراز، سنة، 816 ق.

([13]) راجع: حاشیة الجرجانی علی شرح الکافیة، ج1، ص9 10؛ وتعلیقاته علی شرح الشمسیة، ص33، ذیل قوله: إشارة إلی قسمة الاسم بالقیاس إلی معناه.

([14]) منها فی مبحث المشتقّ. الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص63.

([15]) وهو السّید علّی القزوینی فی حاشیته علی القوانین، ج1، ص11، عند قول المصنّف: «وکذلك الفعل».

([16]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص42 (مبحث المشتقّ).

([17]) وإلیك نصّ ما أفاده فی الکفایة: «الفرق بینهما إنّما هو فی اختصاص کلّ منهما بوضع، حیث إنّه وضع الاسم لیراد منه معناه بما هو هو وفی نفسه، والحرف لیراد منه معناه لا  کذلك ، بل بما هو حالة لغیره...». فلیس مراد صاحب الکفایة، إیجاد الفرق بینهما باشتراط الواضع، بل مراده کما صرّح به السّید البروجردی+ أنّ الواضع وضع الحروف علی معناها، ولکن بغایة وغرض أن تستعمل عند لحاظ المعنی حالة فی غیره، فتأمّل.

([18]) وإلیك نصّ ما ذکره فی الکفایة: «والتحقیق ـ حسبما یؤدّی إلیه النظر الدقیق ـ أنّ حال المستعمل فیه والموضوع له فیها حالهما فی‌الأسماء...».

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: