جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

تأسیس الأصل

وأمّا الكلام فی تأسیس الأصل فی المسألة، فاعلم: أنّه لا أصل فی المسألة على نحو كلّی یعوّل علیه عند الشكّ فی أنّ ما یصدق علیه الضارب ـ مثلاً ـ هو الذات مادام تلبّسها بالمبدأ باقیاً، أو أنّه الذات ولو بعد انقضاء تلبّسها؟

وأمّا الاُصول العملیة فی الموارد الجزئیة فتختلف بحسب اختلاف الموارد، ففی مثل كراهة البول تحت الأشجار المثمرة یكون الأصل البراءة إذا انقـضى عن الشجر المثمر التلبّس بالمبدأ قبل حكم الشارع بالكراهة، ویكون المرجع الاستصحاب إذا انقضى عنه بعد حكمه بالكراهیة.

وكیف كان، فقد اختلفوا فی أصل المسألة، فمنهم من زعم أنّ المشتقّ حقیقة فی

 

الأعمّ مطلقاً. ومنهم من ذهب إلى أنّه حقیقة فیه إذا كان المشتقّ محكوماً علیه، وفی المتلبّس فی الحال إذا كان محكوماً به. واختار بعضهم غیر ذلك من الأقوال.([1])

والحقّ ما ظهر من مطاوی ما ذكرناه، وهو كونه حقیقة فی من تلبّس بالمبدأ فی الحال.

وقد مضى ما یظهر به صحّة القول بكون المشتقّ موضوعاً للأخصّ وضعف القول بالأعمّ.

وصفوة القول بعد ما صارت الجهة المبحوث عنها فی المسألة ـ وهی أنّ حیثیة صدق القائم على الذات هل هی القیام بالفعل أو مفهوم یعمّ حال التلبّس والإنقضاء؟ـ معلومة، أن نقول للقائل بالأعمّ المدّعی للتبادر: كیف یمكنكم إثباته والاستدلال به؟ وقد تبیّن فیما سبق خفاء حیثیة الصدق فی عالم الاعتبار وعدم وضوحها إلّا بعد التامّل، فما معنى هذا التبادر؟ وأیّ معنى ینسبق إلى الذهن بعد هذا الغموض؟

بیان ودفع إشكال: لا یخفى أنّ المشتقّات المستعملة فی لسان أهل المحاورة تارة: تستعمل لأجل مجرّد بیان اتّحاد الذات مع المبدأ استعمالاً حقیقیاً، أی فی الموضوع له، ففی مثل هذا المورد تجعل الذات موضوعاً والمشتقّ محمولاً، كما فی قولنا: زیدٌ ضاربٌ.

وتارة اُخرى: تستعمل لأجل جعلها مرآة لملاحظة الغیر، وهذا كما إذا عرف المخاطب الشخص الّذی صدر منه الضرب بعینه ولم یعرفه باسمه، فیقال له: أكرم الضارب، بحیث یجعل الضارب مرآة وآلة لملاحظة الذات الصادر عنها الضرب. وهذا قد استعمل أیضاً فی معناه الحقیقی، وبسبب استعماله فی ذلك المفهوم یلتفت المخاطب إلى الشخص المعهود.

 

وثالثة: تستعمل لأجل دخالتها فی الحكم وعلیّتها له، كما إذا قال: أكرم العالم؛ فإنّ المراد منه بحسب مقدّمات الإطلاق وجوب إكرام كلّ من كان متّصفاً بصفة العلم فعلاً، فلا یتّجه بذلك استدلال القائل بالأعمّ([2]) بقوله تعالى: ﴿السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُمَا﴾،([3]) وقوله تعالى: ﴿الزَّانِیَةُ وَالزَّانی‏ فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾؛([4])

حیث یترتّب القطع والجلد بعد انقضاء التلبّس ولیس حین التلبّس بالـسرقة أو الزنا.

وذلك لعدم التنافی بین ما قلناه وبین ترتّب القطع والجلد فی الموردین بعد انقضاء التلبّس؛ لأنّ الحكم بالقطع والجلد یستفاد من مناسبة الحكم والموضوع، حیث إنّهما من وظائف السائسین والحكّام، فلا یمكن أن یكون المراد وجوب إجراء الحدّ على من كان مشغولاً بالزنا والسرقة.

ورابعة: تستعمل فی المعنى الحقیقی أیضاً لأجل نفی الحكم عن الذات المتّصف بصفة ولو آناً مّا، كما فی قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهیمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ‏ فَأَتَـمَّهُنَّ قالَ إِنِّی جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّیَّتی‏ قالَ لا یَنالُ عَهْدِی الظَّالـِمین‏﴾،([5]) حیث إنّ المستفاد من قوله تعالى: ﴿إِنِّی جَاعِلُكَ﴾ وطلب إبراهیم جعل الإمامة فی ذریّته بقوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّیَّتی﴾ وإضافة العهد إلى یاء النفس، أنّ منصب الإمامة منصب خطیر عالٍ إلهیّ، وأنّ الإمام لابدّ أن یكون منصوباً من الله تعالى، ونصبه من وظائف مقام الربوبیة وخصائصه، فلا ینال هذه الدرجة الرفیعة من كان متلبّساً بالظلم ولو آناً مّا. ومقتضـى الجمع المحلّى باللام عدم نیل جمیع أفراد الظالمین لهذا المقام، هذا.

ولا یخفى، أنّه لا یصحّ أن یكون المراد فی الآیة الشریفة أنّ المتلبّس بالظلم فی حال

 

الظلم لا ینال عهد الله تعالى؛ لأنّ الظلم لیس من الأوصاف الملازمة للإنسان، بل یكون من الأعراض المفارقة، فإذا قلنا: الظالم لا یتصدّى منصب الحكومة أو السلطنة، فمعناه أنّ من اتّصف بهذه الصفة ولو فی وقت من الأوقات غیر لائقٍ لحیازة هذا المنصب. ولو كان المراد عدم نیل الظالم له فی حال الظلم، لزم من ذلك لیاقة كلّ الناس لذلك المنصب الرفیع؛ لأنّه لا یوجد واحد من الظالمین قد تلبّس بالظلم فی جمیع الأزمنة، كما هو واضح.

 

([1]) نحو القول بأنّه حقیقة فی خصوص المتلبّس مطلقاً. وفصّل بعضهم بین ما کان المشتقّ مأخوذاً من المبادئ المتعدّیة إلی الغیر وما لم یکن کذلك، فالمتعدّی حقیقة فی الأعمّ، واللازم حقیقة فی خصوص المتلبّس. وقال بعضهم: إنّه حقیقة فی الأعمّ إن کان مبدؤة ممّا ینصرم، وفی الأخصّ إن کان ممّا یمکن بقاؤه وثباته.

([2]) الأصفهانی، هدایة المسترشدین، ص84؛ الطباطبائی، مفاتیح الاُصول، ص17.

([3]) المائدة، 38.

([4]) النور، 2.

([5]) البقرة، 124.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: