جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

التنبیه الثانی: تصویر الجامع

لا یخفى أنّه لابدّ من تصویر الجامع بین أفراد الصحیح على القول به، وأفراد الأعمّ أیضاً على القول به، إلّا أنّهم وقعوا لذلك فی الإشكال. ولا ریب فی عدم إمكان تصویر

 

جامع ذاتی على القولین، لعدم تعقّل الجامع الذاتی بین الاُمور المتباینة بالذات. كیف ولا یعقل ذلك فی خصوص ما هو المصداق للصلاة مثلاً، كصلاة الكامل المختار التامّة الشرائط والأجزاء، فلا جامع ذاتی بین هذه الأجزاء والشرائط یختصّ بها دون غیرها؛ فما ظنّك بالجامع الذاتی بین جمیع مراتب الصلاة ـ قصراً وتماماً، ومضطرّاً ومختاراًـ .

أمّا الجامع بین مثل أجزاء الصلاة وشرائطها وبین مراتبها وأفرادها فلیس إلّا ما یكون عرضیاً، سواء كان المختار هو القول بالصحیح أو الأعمّ.

فنقول: أمّا الجامع العرضی بین أفراد الصحیح، فقال فی الكفایة: «لا إشكال فی وجوده بین الأفراد الصحیحة، وإمكان الإشارة إلیه بخواصّه وآثاره، فإنّ الاشتراك فی الأثر كاشف عن الاشتراك فی جامع واحد، یؤثّر الكلّ فیه بذاك الجامع، فیصحّ تصویر المسمّى بلفظ الصلاة مثلاً: بالناهیة عن الفحشاء، وما هو معراج المؤمن، ونحوهما».([2]) انتهى.

ویمكن الإیراد علیه:

أوّلاً: بأنّ الأثر الخاصّ المترتّب على أفراد الصلاة إذا كان مثل النهی عن الفحشاء أو كونها معراج المؤمن، لا یمكن أن یكون هو الجامع بین الأفراد والمسمّى بالصلاة، لأنّه لا یثبت به عدم ترتّبه على غیرها.

وثانیاً: بأنّ الظاهر من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنْكَرِ﴾،([3]) أنّها حقیقة یكون النهی عن الفحشاء أثرها، ولو كان معنى الصلاة هو الناهیة عن الفحشاء یصیر المعنى: الناهیة عن الفحشاء تنهى عن الفحشاء، وهو المصادرة على المطلوب، وهذا لا یلیق بالقرآن الكریم.

 

فالصحیح أن یقال بأنّ ما هو الجامع العرضی بین أفراد الصلاة هو ما لا یتحقّق فی ضمن غیرها مثل: غایة الخضوع وكمال العبودیة والتوجه الخاصّ الّذی یتحقّق فی ضمن أفرادها المختلفة الأجزاء والـشرائط بحسب الحالات، حتى وإن لم نعلم به تفصیلاً إلّا أ نّنا نعلم بوجوده فی الجملة، فإذا دلّ الدلیل على أنّ المسمّى باسم الصلاة أو الصوم أو غیرهما هو الصحیح نأخذ به، ونقول بالقدر الجامع بین أفراد الصلاة الصحیحة أو الصوم الصحیح.

وقد یشكل: بأنّ الجامع الّذی لم نتحصّله بعنوان لا یمكن أن یكون أمراً مركّباً؛ إذ کلّ ما فرض جامعاً یمكن أن یكون صحیحاً وفاسداً. كما لا یمكن أن یكون أمراً بسیطاً؛ لأنّه إمّا أن یكون مثل عنوان المطلوب، أو ملزوم المطلوب المساوی له، والأوّل مستلزم للدور لتوقّف تحقّق هذا العنوان على الطلب وتوقّف الطلب علیه. مضافاً إلى أنّه جامع عامّ یشمل جمیع أفراد العبادات. ومضافاً إلى أنّ ذلك مانع من إجراء البراءة فی أجزاء العبادات وشرائطها، لعدم الإجمال حینئذٍ فی المأموربه وإنّما الإجمال فیما یتحقّق به وفی مثله لا مجال لها، كما حقّق فی محلّه، مع أنّ المشهور القائلین بالصحیح قائلون بها فی الشكّ فیهما.

وبهذا یشكل لو كان البسیط هو ملزوم المطلوب أیضاً، فلا تجری البراءة معه.

وأجاب فی الكفایة عن هذا الإشكال: «بأنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد منتزع عن هذه المرکّبات المختلفة زیادة ونقیصة بحسب اختلاف الحالات، متّحد معها نحو اتّحاد، وفی مثله تجری البراءة، وإنّما لا تجری فیما إذا كان المأمور به أمراً واحداً خارجیاً مسبّباً عن مركّب مردّد بین الأقلّ والأكثر، كالطهارة المسبّبة عن الغسل والوضوء فیما إذا شكّ فی أجزائهما».([4])

 

وتوضیحه: أنّ مفهوم الصلاة لیس عنوان المطلوب ولا عناوین الأجزاء بذواتها، بل یكون عنواناً عرضیاً صادقاً على کلّ الأجزاء الأصلیة تارة، وعلى البعض اُخرى، وعلى أبدالها ثالثة، مع وجود جمیع الشروط فی الجملة تارة ومع عدمها اُخرى، وهكذا فی الموانع.

وهذا العنوان العرضی لمّا كان صادقاً على الأجزاء بالفعل متّحداً معها فی الخارج، كان وجوده عین وجودها، فكان بحسب الوجود مركّباً وإن كان بحسب المفهوم بسیطاً، فإذا شكّ فی جزئیة شیءٍ شكّ فی نفس متعلّق الوجوب، فینحلّ العلم الإجمالی إلى العلم التفصیلی بالوجوب والشكّ البدویّ فیه، فتجری البراءة النقلیة على مختاره، والعقلیة أیضاً على مختارنا تبعاً للقوم. وإنّما لا تجری البراءة فیما إذا كان البسیط المعلوم مسبّباً عن المرکّب، فإنّ وجوده غیر صادق علیه.

ویمكن الإشكال بأنّه وإن شیّدنا أركان القول بجریان البراءة العقلیة عند الشكّ فی الجزئیة والشرطیة ودفعنا ما أورده شیخنا+، لكن جریان البراءة فیما إذا كان المكلّف به مفهوماً منتزعاً من جملة وجودات باعتبار الإضافة إلى شیءٍ آخر إمّا بالعلّیة أو بغیرها وشكّ فی مدخلیّة وجود فی انتزاع هذا المفهوم وتحقّق هذه الإضافة فی نفس الأمر عند عدم هذا الوجود، فی غایة الإشكال، وإن كان هذا المفهوم متّحداً معها حین ما یصدق، وصادق علیها حین یتحقّق، ألا ترى أنّه إذا أمر المولى عبده بإزهاق روح حیوان وهو یتحقّق منه بجملة اُمور شكّ فی دخل واحد، فلم یوجده ولم یتحقّق الإزهاق لم یعدّ معذوراً وإن كان الإزهاق حین تحقّقه صادقاً على نفس هذه الجملة، وهكذا عنوان التعظیم إذا تحقّق بجملة اُمور صادق علیها وشكّ فی دخل شیءٍ ـ جزءاً أو شرطاًـ، وتمام الكلام فی محلّه.([5])

 

هذا كلّه فی تصویر القدر الجامع على القول بالصحیح. وأمّا على القول بالأعمّ فقد ذكر لتصویره فی الكفایة وجوهاً:

أحدها: أن یكون عبارة عن جملة من أجزاء العبادة كالأركان فی الصلاة مثلاً، وكان الزائد علیها معتبراً فی المأموربه لا فی المسمّى.([6])

وأجاب عنه أوّلاً: بأنّ التسمیة بها لا تدور مدارها، ضرورة صدق الصلاة مع الإخلال ببعض الأركان.

وثانیاً: بعدم الصدق علیها مع الإخلال بسائر الأجزاء والشرائط عند الأعمّی.

وثالثاً: بلزوم أن یكون الإستعمال فیما هو المأمور به ـ بأجزائه وشرائطه ‏ـ مجازاً عنده، وكان من باب استعمال اللفظ الموضوع للجزء فی الكلّ، لا من باب إطلاق الكلّی على الفرد، ولا یلتزم به القائل بالأعمّ، فافهم.

 

ثانیها: أن تكون موضوعة لمعظم الأجزاء الّتی تدور مدارها التسمیة عرفاً، فصدق الاسم كذلك یكشف عن وجود المسمّى، وعدم صدقه عن عدمه.

وأجاب عنه أوّلاً: بما أورد على الأوّل أخیراً.

وثانیاً: بأنّه علیه یتبادل ما هو المعتبر فی المسمّى، فیكون شیءٌ واحدٌ داخلاً فیه تارةً وخارجاً عنه اُخرى، بل مردّداً بین أن یكون هو الخارج أو غیره وذلك عند اجتماع تمام الأجزاء، وهو كما ترى، سیّما إذا لوحظ هذا مع ما علیه العبادات من الاختلاف الفاحش بحسب الحالات.

أقول: إنّ مراد القائل بهذا الوجه إن كان مفهوم الأجزاء أو مفهوم معظم الأجزاء أو مفهوم أجزاء المطلوب بأمر «أقیموا الصلاة» أو الصحیح من الصلاة، فلا تتحصّل هذه المفاهیم إلّا بتحصّل مفهوم الصلاة، فإذا كان تحصّل مفهوم الصلاة متوقّفاً على تحصّل هذه المفاهیم یدور.

وإن كان مراده مصداق معظم الأجزاء، فمصادیقه كثیرة فلابدّ من تعدّد الوضع أو الوضع لواحدٍ منها، وهو غیر الجامع بین الأفراد.

ثالثها: أن یكون وضع الصلاة كوضع الأعلام الشخصیة، فكما لا یضرّ فی التسمیة فیها تبادل الحالات من الصغر والكبر، ونقص بعض الأجزاء وزیادتها، كذلك فی الصلاة وسائر العبادات لا یضرّ بالتسمیة اختلاف أفرادها حسب تبادل الحالات.

والجواب عنه: بالفرق بین ما نحن فیه وبین الأعلام الشخصیة، فإنّ تلك الأعلام موضوعة للأشخاص، مثلاً لفظ «زید» موضوع لابن عمرو، والموضوع له لیس جسم زید وبدنه المرکّب حتى یكون اختلافه بحسب الزیادة والنقیصة موجباً لاختلاف معناه، بل الموضوع له یكون أمراً واحداً، وهو ابن عمرو الّذی هو فردٌ معیّنٌ للإنسان، وهو محفوظ فی جمیع الحالات الطارئة علیه، وهذا بخلاف الحقائق المرکّبة، فإنّ كلّ فردٍ منها موجودٌ بوجودٍ خاصّ تصدق علیه الحقیقة الّتی هو تحتها، وهی الجامعة بین أفرادها.

 

وبعبارة اُخرى: الموضوع له فیما یكون هو الجامع للأفراد كلّی ینطبق على أفراده لا تصویر له على القول بالأعمّ، بخلاف ما هو الموضوع له فی الأعلام الشخصیة، فإنّها موضوعة لها، وتشخّص كلّ فردٍ منها بوجوده الخاصّ الباقی ما بقی وجوده.

بل یمكن أن یقال: إنّ الأعلام الشخصیة أیضاً وضعها كأسماء الأنواع، فهی أیضاً موضوعة للشخص الإنسانی الّذی ینطبق علیه إذا كان واجداً لجمیع الأعضاء والأجزاء، وكذا إذا كان فاقداً لبعضها، لكن ذلك لا یكون مصحّحاً لتصویر الجامع على القول بالأعمّ، بل یؤیّد ما ذكرناه فی تصویره على القول بالصحیح، لأنّ تصویره على القول بالأعمّ یحتاج إلى جزء خارجی للعبادة یكون باقیاً مع انتفاء غیره ممّا له دخل فی صحّتها ـ جزءً أو شرطاً ـ، فتدبّر.

رابعها: ما ذكره أیضاً فی الكفایة وردّ علیه.([7])

ویرد علیه مضافاً إلى ما أورده شیخنا الاُستاذ+: أنّ استعمال اللفظ الّذی وضع للصحیح فی ما وضع له وإرادة الفاسد منه وغیر ما هو الموضوع له منه بدعوى كون

 

الفاسد هو هو أو فرداً منه، لا یجعل الموضوع له الأعمّ وحقیقة فیه ولا یحدث بذلك جامعاً بین الصحیح والفاسد. غایة الأمر لو استعمل اللفظ فی الفاسد وفی غیر الموضوع له حتى صار حقیقةً فیه، یصیر اللفظ به مشتركاً لفظیاً بین المعنیین اللذین لا جامع بینهما.

نعم، یمكن تصویر الجامع بین أفراد الفاسد بأنّه ما لا یترتّب علیه أثر الصحیح.

خامسها: أیضاً ما ذكره فی الكفایة وأجاب عنه.([8])

أقول: إنّ الكمیّة فی أسامی المقادیر والأوزان ملحوظةٌ فی معانی ألفاظها، لكن یمكن أن لا تكون ملحوظة على نحو لا تشمل الأقلّ منه أو الأكثر بما یتسامح العرف فیه، بل كانت ملحوظة كذلك أی على نحوٍ تشمل الأقلّ منه أو الأكثر فی الجملة؛ ولیس الأمر كذلك فی العبادات، إذ لیست الكمیّات المتّصلة أو المنفصلة مأخوذةً فیها حتى یقال بوضع الألفاظ لها، ولا ینافی ذلك أن یعرضها العدد ببعض الاعتبارات.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: