پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

الجهة الرابعة: فی تقسیم الطلب إلى الوجوبیّ والندبیّ

بعدما ظهر لك فی الجهة الثالثة: أنّ حقیقة الطلب عبارة عن وجود إنشائیّ اعتباریّ موطنه عالم الاعتبار، وینتزع من الجمل الإنشائیة البعثیة، فلیعلم: أنّ الطلب على قسمین: إلزامی إیجابی، وندبی استحبابی.واللازم بیان ما به یمتاز کلّ واحد منهما عن الآخر.

فنقول: إنّ امتیاز الأشیاء بعضها عن بعض تارة: یكون بتمام الذات من غیر أن یفرض بینهما جزء مشترك.

واُخرى: ببعضها، وهذا فی الحقائق المشتركة فی الجنس الممتازة بالفصل الّذی هو جزء الذات.

وثالثة: یكون الامتیاز بالمنضمّات والعوارض.

ورابعة: یحصل بالزیادة والنقصان، مثل: الخطّین المتمایزین بالطول والقصر.

وخامسة: یتحقّق الامتیاز بالشدّة والضعف، كامتیاز بیاض العاج عن بیاض الثلج. وفی هذین الأخیرین یكون ما به الامتیاز عین ما به الاشتراك.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ امتیاز الأمر الوجوبی عن الاستحبابی لیس من قبیل القسم الأوّل ولا الثانی. أمّا الأوّل فواضح.

 

وأمّا الثانی، فلأنّ الامتیاز بجزء الذات لا یتحقّق إلّا إذا كان فصل الوجوب هو المنع من الترك، وفصل الاستحباب هو الإذن فی الترك، كما هو المشهور بین القدماء. والحال أنّه لیس كذلك؛ لأنّ المنع من الترك فی الأمر الوجوبی والإذن فیه فی الندبی لا یكون جزء الذات وداخلاً فیها كدخول الفصل المقوّم فی النوع، بل المنع من الترك لا یكون فی الحقیقة إلّا طلب ترك الترك، وترك الترك نفس الفعل لا الجزء الممیّز له.

كما أنّه لیس الامتیاز أیضاً من قبیل القسم الثالث والرابع. وإنّما الظاهر كونه من قبیل القسم الخامس، إذ الطلب الإنشائی یكون كالبعث الخارجی المباشری فكما أنّ الطالب فی الطلب المباشری قد یكون شدید البعث بحیث یجرّ المبعوث نحو المطلوب، وقد لا یكون بهذا الحدّ، كذلك فی الطلب الإنشائی، فیكون الامتیاز بین الوجوب والندب بالشدّة والضعف.

ولیس معنى ذلك كون الطلب الإنشائی من المقولات المشكّكة حتى یقال بأنّ الأمر الاعتباری لیس مقولاً بالتشكیك، بل بمعنى أنّ إنشاء الطلب تارة یكون مقارناً لاُمور تدلّ على تأكّده، واُخرى یكون مقارناً لاُمور تدلّ على عدم تأكّده. فالطلب الندبی هو الطلب المقارن مع الإذن فی الترك، والطلب الخالی عن ذلك أو المقارن مع اُمور تؤكّد الطلب هو الطلب الإیجابی.

فعلى هذا یكون الأمر حقیقة فی الطلب، وأمّا الوجوب فإنّما یستفاد من عدم مقارنة الأمر مع القرینة الدالّة على الندب. فما هو الملاك وتمام الموضوع لاستحقاق العقاب وصحّة مؤاخذة المولى عبده، نفس إنشاء الطلب مع عدم الإذن فی الترك ولو احتملنا إذنه فی الترك.

ویمكن أن یقال بأنّ امتیاز الوجوب والندب إنّما یكون فی مبدئهما، وما هو علّة للطلب الإنشائی وهی الإرادة النفسانیة، فإنّها تارة تكون متأكّدة بحیث لا یرضى

 

بترك مراده، وتارة لا تكون كذلك، فإذا كانت متأكدة یكون الطلب الإنشائی الناشئ منها إیجابیاً وإلّا كان ندبیّاً.

فعلى هذا یكون الطلب الإنشائی غیر المقرون بالإذن فی الترك كاشفاً عن هذه الإرادة المتأكّدة وطلباً إلزامیاً.

ثم إنّه ربما یظهر من كلام بعضهم: أنّ الفصل الممیّز بین الوجوب والاستحباب إنّما هو صحّة المؤاخذة على المخالفة فی الوجوب، وعدمها فی الندب.

كما یظهر من بعض آخر أنّ فصل الوجوب هو عدم رضا المولى بترك الواجب، وفصل الندب رضاه على ذلك.

ولا یخفى ما فیهما.

أمّا الأوّل، فلأنّ صحّة المؤاخذة وعدمها من الآثار العقلیة للأمر الوجوبی والاستحبابی، الّتی لا تكون إلّا بعد تحصّل الأمر الوجوبی فی الوجوب والندبی فی الندب، فلا یعقل أخذها فی تحصّل الوجوب وعدمها فی تحصّل الندب؛ لأنّ الفصل إنّما یكون محصّل الجنس ومقوّم النوع.

وأمّا الثانی، فلأنّ عدم الرضا على ترك الفعل أمر قلبی نفسانی لا یمكن أن یكون فصلاً مقوّماً لما یوجد فی الرتبة المتأخّرة عنه فی عالم الاعتبار، وكذلك الرضا على الفعل.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ دلالة الجمل الإنشائیة ـ فیما تكون خالیة عن الإذن فی الترك ـ على الوجوب إنّما تكون بالدلالة العقلیة؛ لأنّ المتكلّم الحكیم إذا قال: «اضرب زیداً» أو «أمرتك بكذا» فكلامه هذا من حیث إنّه فعل من أفعاله یدلّ على صدوره منه عن الاختیار والقصد، وأنّ صدوره عنه لا یكون لغواً ولا هزلاً بل لأجل إفادة فائدة. ومن حیث إنّه لفظ تکلّم به یدلّ على أنّه تکلّم به لإفادة المعنى الموضوع له لا لإفادة مطلب آخر، وهذا الإنشاء الخالی من الإذن فی الترك من حیث إنّه فعل صدر

 

من الحكیم یدلّ على الوجوب، إمّا من جهة كونه مقارناً مع أمریدلّ على تأكّد طلب المولى بناءً على المبنى الأوّل، أو من جهة كونه دالاً على وجود الإرادة المتأكّدة فی نفسه على المبنى الثانی.

ومن هنا ظهر عدم صحّة ما أفاده المحقّق الخراسانی&([1]) من دلالة الأمر وضعاً أو إنصرافاً على الطلب الإنشائی المقیّد بالإرادة المتأكّدة؛ إذ فیه مضافاً إلى ما ذكر أنّ الطلب الإنشائی لا یمكن أن یكون مقیّداً بالإرادة الّتی هی من الكیفیّات النفسانیة، مع أنّ الطلب الإنشائی إنّما یكون معلولاً للإرادة، فكیف یقیّد المعلول بعلّته؟

ثم إنّ ما ذكرناه إلى هنا إنّما یكون مبنیّاً على صحّة تقسیم الطلب إلى الإیجاب والندب، وأمّا لو قلنا بعدم صحّة هذا التقسیم، وأنّ الاستحباب والإذن فی الترك تنافی مع البعث والتحریك والطلب، وأنّ مقتضى المولویّة الطلب على سبیل الإلزام، فلا یبقى مجال لهذه الأبحاث.

وقد اختار ذلك المحقّق القمّی+،([2]) فإنّه ذهب إلى مباینة الندب مع الوجوب وعدم كونهما من سنخ واحد. وأنّ الأوامر الندبیّة كلّها إنّما تكون للإرشاد؛ لأنّ الندب منافٍ للطلب والبعث ومقتضى المولویة.

وربما كان مختاره هذا غیر بعید عن الصواب.

هذا تمام الكلام بالنسبة إلى مادّة الأمر سواء اُنشئ بالألفاظ أو الأفعال من غیر دخل خصوصیة لفظ من الألفاظ أو فعل من الأفعال. والله تعالى أعلم بحقیقة الحال، وهو حسبی ونعم الوكیل.

 


([1]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص98 ـ 99 (الجهة الرابعة).

([2]) القمّی، قوانین الاُصول، ص81 ـ 82.

موضوع: 
نويسنده: