جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

فائدتان:

الاُولى: اختلاف صیغ الأمر

الصیغ الّتی بها یتحقّق الطلب بحیث یصحّ بعد التكلّم أن یقال: «طلب المتکلّم» وإن كانت متّفقة فی أصل تحقّق الطلب بها، لكن یمكن القول بالفرق بینها. ففرق بین قول المولى لعبده: أطلب منك إكرام العلماء أو آمرك بإكرامهم، وبین قوله: أكرم العلماء؛ فإنّ مفهوم الطلب فی الأوّل یكون متصوّراً عنده ویتوجّه إلیه المتکلّم عند التكلّم، وهذا بخلافه فی الثانی فإنّه لیس للآمر توجّه إلّا إلى المطلوب وهو إكرام العلماء، فكأنّه لم یكن الطلب متصوّراً عنده حین إلقاء اللفظ.

ومن هذه الجهة ذهب بعض أساتذتنا إلى أنّ صیغة إفعل وما فی معناها موضوعة لمجرد انتساب الفعل. ولكنه لا یخفى ما فیه؛ لأنّا نرى أنّ المتکلّم إذا قال: إضرب أو اُنصر، یقال فی العرف: طلب الضرب أو النصر.

هذا، ویمكن أن یقال: إنّ الإنسان تارة: یتوجّه إلى الشیء توجّه من یطلبه، واُخرى: توجّه من یتصوّره، وثالثة: توجّه من یصدّقه، ولابدّ أن یكون لفظ إضرب مثلاً مستعملاً وموضوعاً للضرب الّذی توجّه إلیه المتكلّم توجّه من یطلبه، إذ لا یمكن أن یكون موضوعاً لتصوّر أو تصدیق نسبة الضرب إلى المخاطب، لأنّهما أجنبیان عن مفاد هذه الصیغ الإنشائیة، فتدبّر.

الثانیة: كثرة استعمال الأمر فی الندب

قال صاحب المعالم+: الثانیة: «یستفاد من تضاعیف أحادیثنا المرویّة عن الأئمة^ أنّ استعمال صیغة الأمر فی الندب كان شائعاً فی عرفهم بحیث صار من المجازات الراجحة المساوی احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقیقة عند انتفاء المرجّح الخارجی،

 

فیشكل التعلّق فی إثبات وجوب أمرٍ بمجرّد ورود الأمر به منهم^».([1])

وقد أجاب عنه فی الكفایة بوجوه:

الأوّل: إنّ كثرة استعمال صیغة الأمر فی الندب فی الكتاب والسنّة غیر موجب لنقلها إلیه أو حملها علیه لكثرة استعمالها فی الوجوب أیضاً.

الثانی: إنّه وإن كثر استعمالها فیه إلّا أنّه مع القرینة المصحوبة، وذلك وإن كان موجباً لشدّة اُنس الذهن مع المعنى المجازی إلّا أنّ مجرّد الاُنس وتوجّه الذهن إلى المعنى المجازی بمعونة القرینة لا یكون موجباً لصیرورة اللفظ مجازاً مشهوراً حتى یترتّب أثره وهو الترجیح أو التوقّف.

الثالث: النقض بكثرة استعمال العامّ فی الخاصّ حتى قیل: «ما من عامّ إلّا وقد خصّ» ومع ذلك لم ینثلم بها ظهوره فی العموم بل یحمل على العموم ما لم تقم قرینة على الخصوص.([2])

وفیما أفاده فی مقام الجواب نظر:

ففی الأوّل: أنّ صاحب المعالم+ ادّعى الكثرة فی جمیع الأخبار المرویة عنهم^ لا خصوص السنّة المصطلحة فی المرویات عن النبی| حتى یقال بكثرة استعمالها فی الوجوب فیها أیضاً. وادّعاء كثرة استعمالها فی الوجوب فی جمیع الأخبار فی مقابل كثرته فی الندب مُجازفة جدّاً.

وفی الثانی: أنّه لو قلنا بأنّ الدالّ على المعنى المجازی هو اللفظ والقرینة معاً صحّ ما أفاده فی الجواب. أمّا لو قلنا بأنّ الدالّ على المعنى المجازی هو نفس اللفظ، والقرینة إنّما تدلّ على إرادة المعنى المجازی منه كما هو الحقّ، فلا یتمّ ما أفاده، ففی مثل قولنا:

 

رأیت أسداً یرمی یكون المستعمل فی الرجل الشجاع هو الأسد وأمّا «یرمی» فهی قرینة على إرادة المعنى المجازی من اللفظ.

وفی الثالث: أنّ العامّ كما هو التحقیق ومختاره أیضاً،([3]) لا یستعمل إلّا فی العموم، والمخصّص إنّما یدلّ على تعلّق الإرادة الجدّیة بالخاصّ.

هذا مضافاً إلى أنّ استعمال العامّ فی الخاصّ وإن كان كثیراً إلّا أنّه لیس بالنسبة إلى معنى مجازیّ واحد بل یكون بالنسبة إلى معانٍ مجازیة متعدّدة، فلا یكون استعماله بالنسبة إلى کلّ واحد من هذه المعانی كثیراً، وأین هذا من استعمال صیغة الأمر وإرادة الندب الّذی لا یكون إلّا معنى مجازیاً واحداً، فكثرة الاستعمال فیه توجب اُنس الذهن بخلاف المقیس علیه.

هذا كلّه بناءً على المسلك المشهور وأنّ الأمر حقیقة فی الوجوب.

وأمّا بناءً على المختار من كون الأمر حقیقة فی مطلق الطلب وأنّ الوجوب إنّما یستفاد من عدم اقتران الأمر بقرینة على الترخیص بخلاف الندب، أو من جهة أنّ الوجوب عبارة عن الإرادة الأكیدة فخلوّ الأمر عن القرینة الدالّة على الندب یكون كاشفاً عنها بخلاف الندب، فلا یبقى مجال لهذه التفصیلات.

نكتة: فی الأوامر ونواهی المعصومین^: وهاهنا نكتة لا یخلو ذكرها عن فائدة فی الفقه، وهی: أنّ الأوامر والنواهی الصادرة عن النبیّ والأئمّة ـ صلوات الله‏ علیهم أجمعین ـ لیست كلّها مولویة، بل تارة تصدر عنهم بما أنّ لهم الولایة والسلطنة على الناس: وهذه كالأوامر والنواهی النبویة الصادرة فی الغزوات المرتبطة بالجهاد من تعیین وظائف المجاهدین ونحو ذلك، وكالأوامر والنواهی العلویة فی حرب الجمل وصفّین وغیرهما.

 

وتارة اُخرى: تصدر عنهم بما أنّهم مبلّغو الأحكام وعالمون بالتكالیف الدینیة. وهذا القسم لم یصدر عنهم إلّا لمجرّد الإرشاد، كأوامر الفقهاء والوعّاظ ونواهیهم. فقوله× بعد سؤال السائل عن من شكّ فی الثلاث والأربع: «یبنی على الأربع» مثلاً، لا یدلّ إلّا على الإرشاد، ومخالفته لا تعدّ معصیة ومخالفة للإمام×. نعم، تكون معصیة لله تعالى إذا كان المُرشَد إلیه واجباً.

وعلى هذا البناء وفرض دلالة الإرشاد على مطلوبیة المُرشَد إلیه، تارة: یكون الأمر خالیاً عن القرائن الدالّة على كون المُرشَد إلیه ندباً فیحكم بوجوب المُرشَد إلیه، واُخرى: لا یكون كذلك فیحكم باستحبابه.

ومن ذلك یظهر فساد ما ذكره صاحب المعالم+ من كثرة استعمال الصیغة فی كلام الأئمّة^ فی الندب؛ لأنّ الأوامر الصادرة عنهم إنّما استعملت فی جمیع الموارد ـ إلّا موارد خاصّة ـ فی الإرشاد لا المولویة من الندب والوجوب.([4])

ثم إنّه قد ظهر ممّا ذكر حال بعض المباحث المذكورة فی الكفایة،([5]) وإنّما لم نتعرّض لذكرها احترازاً من الإطالة، وهی كالبحث فی أنّ الجمل الخبریة الّتی تكون فی مقام الإنشاء هل تفید الوجوب أو لا؟ فبأیّ لفظ اُنشئ الطلب یكون حاله حال الأمر من غیر فرق بین الجمل الإنشائیة والإخباریة.

 


([1]) العاملی، معالم الدین، ص53.

([2]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص103-104.

([3]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص333.

([4]) یمکن تقریر کلام صاحب المعالم& بما یطابق ما أفاده سیّدنا الاُستاذ متّعنا الله بطول بقائه بأنّه یظهر من تضاعیف أحادیثنا المرویة عن الأئمّة^ استعمال صیغة الأمر فی الإرشاد إلی الندب بحیث صار احتمال الإرشاد إلی الندب مع خلوّ الصیغة عن القرائن الدالّة إلیه مساویاً لإحتمال الإرشاد إلی الوجوب فیشکل استفادة الوجوب من الأوامر الواردة عنهم الدالّة علی الإرشاد إلی مطلوبیة شیء ولو کانت خالیة عن القرائن الدالّة علی کون المرشد إلیه مندوباً. ولکن ظاهر کلام صاحب المعالم& خلاف ذلك. [منه دام ظلّه العالی].

([5]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص104 (المبحث الثالث من الفصل الثانی فیما یتعلّق بصیغة الأمر).

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: