جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

تثبیت معنى التوسّع لتصویر الأمر بالضدّین

إنّ التحقیق([1]) فی معنى الموسعیة أنّه لیس أحد الوجهین المذكورین، بل معناه أنّ المأمور به یكون طبیعة الفعل على وجه كلّیّ بحیث تكون لها بحسب أجزاء الزمان أفراد كثیرة خارجیة، وهذه الطبیعة قابلة للانطباق على جمیع تلك الأفراد انطباقاً قهریاً، كما یكون فی انطباق کلّ طبیعی على جمیع أفراده، فعلى هذا لا یكون لتلك الأفراد ـ الّتی لها خصوصیات فردیة مشخّصة ـ دخل فیما هو الملاك والمناط فی الأمر بالطبیعة؛ لأنّ المصلحة إنّما تترتّب على صرف الطبیعة المأمور بها، أمّا الخصوصیات الفردیة فهی خارجة عن الملاك فلابدّ أن تكون خارجة عمّا هو متعلّق الأمر، ومن الواضح أنّ ما لیس له دخل فی متعلّق الأمر لیس له دخل فی تحقّق الامتثال.

وإن شئت مزید توضیح لذلك فاعلم: أنّ الفعل الّذی یتعلّق به البعث والتحریك الإنشائی ویكون متعلّقاً للإرادة التشریعیة لابدّ وأن تكون له مصلحة تترتّب علیه عند وجوده فی الخارج ملازماً لوجود تلك المصلحة، ویكون الأمر بهذا الفعل بملاحظة تلك المصلحة لا محالة وإلّا لكان الأمر به جُزافاً ولغواً، وكذلك یلزم أن یكون لکلّ خصوصیة من الخصوصیات ووصف من الأوصاف الّتی تؤخذ فی متعلّق الأمر دخل فی حصول هذه المصلحة وترتّب الغرض على الفعل حتى لا یكون أخذ هذه الخصوصیة فی متعلّق الأمر لغواً.

إذا عرفت ذلك یظهر لك أنّ طبیعة الصلاة مثلاً وجمیع القیود المأخوذة فیها لابدّ وأن تكون لها مصلحة تترتّب علیها، وأن تكون القیود والخصوصیات المأخوذة فیها مؤثّرة ودخیلةً فی ترتّب تلك المصلحة علیها، ومن تلك الخصوصیات الملحوظة فیها

 

كونها فی وقت كذائی معیّن ـ أوّله الزوال وآخره الغروب مثلاً ـ فلا مناص من أن یكون لهذه الخصوصیة دخل فی ترتّب المصلحة علیها وإلّا لكان الأمر بالصلاة مخصّصاً بها لغواً.

وأمّا ما لا یكون له دخل فی ذلك كخصوصیة وقوعها فی أوّل الوقت أو آخره أو وسطه فلا یكاد أخذه فیها؛ لأنّ أخذها یكون عبثاً ومن قبیل ضم الحجر إلى جنب الإنسان، فالمتعلّق للأمر إنّما هو الطبیعة المشتركة بین أفرادها من أوّل الزوال إلى الغروب على نحو اشتراك الطبیعی بین أفراده، فعلى هذا لا مانع من تعلّق الأمر بالطبیعة بملاحظة المصلحة المترتّبة علیها فی زمان ممتدّ ولو كان بعض أفراد هذه الطبیعة مزاحماً لتكلیف آخر ومطارداً له، إذ الضدّیة والمطاردة لا تكون من جانب متعلّق التكلیف الّذی هو الطبیعة لیس إلّا، فلا تكون معاندة بینها وبین غیرها أصلاً، بل المطاردة والمضادّة إنّما تكون بین بعض أفرادها المخصّصة بخصوصیة كونه فی زمان خاصّ، ومن المعلوم أنّ هذه الخصوصیة غیر مأخوذة فی متعلّق الأمر؛ لأنّ هذه الخصوصیة (وقوعها فی ذلك الجزء من الزمان أو جزء آخر منه) غیر دخیلة فی ترتّب المصلحة.

والحاصل: أنّ ما هو المضادّ للتكلیف الآخر من أفراد هذه الطبیعة لیس مأموراً به وإن كان ممّا تنطبق علیه تلك الطبیعة انطباق الكلّی على أفراده، فلیس بین المأمور به وغیره تزاحماً وتعانداً أصلاً. وهذه الطبیعة لا تصیر باعتبار هذا الفرد خارجة عن كونها مقدورةً وإن كان هذا الفرد منها مزاحماً ومطارداً للغیر، فلا یكون الأمر بالطبیعة الموسّعة والأمر بالطبیعة المضیّقة من قبیل الأمر بالضدّین. فإذا صحّ تعلّق الأمر بها كذلك یمكن امتثالها بإیجاد کلّ فرد من أفرادها حتى تنطبق علیه تلك الطبیعة ولو كان الفرد المأتیّ به هو الفرد المزاحم للتكلیف الآخر.([2])

 

ثم إنّه قد انقدح ممّا ذكرناه ضعف ما أورده بعض الأعاظم على هذا الكلام وإن كان المحتمل أنّه من زلّات أقلام بعض المقرّرین. وهو: أنّ الـسرّ فی استحالة الأمر بالضدّین لیس قبح صدوره عن الحكیم كما هو المشهور، بل عدم انقداح الإرادة النفسانیة مع الالتفات والعلم بامتناع وجود الضدّین فی نفس الآمر الحكیم، فحینئذٍ تكون قدرة المكلّف شرطاً لأصل التكلیف، فلا تكاد أن تكون فی نفس المولى إرادة لفعله بعد علمه بعدم قدرة المكلّف على ذلك. وفیما نحن فیه قد فرضنا أنّ المولى حَكم بفعل الأهمّ فی بعض زمان المهمّ وحكمه هذا یسلب عنه القدرة على إتیان الفرد المهمّ فی هذا الزمان، وحیث إنّ الامتناع الشـرعی كالامتناع العقلی فلا یمكن الأمر بالمهمّ فی ظرف الأهمّ وزمان مزاحمته معه.

ولا یخفى ما فی هذا الكلام من الغفلة عمّا فرضناه، فإنّ المفروض كون الطبیعة ـ خالیة عن جمیع الخصوصیات الفردیة ـ تمام متعلّق الأمر، فلا یكون وقوعها فی زمان المزاحمة مع ما هو الأهمّ إلّا كالحجر المضموم إلى جنب الإنسان.

هذا مضافاً إلى أنّ حكمه بعدم قدرة المكلّف على المهمّ فی زمان مزاحمته مع الأهمّ هو عین المتنازع فیه؛ فإنّ النزاع لا یكون إلّا فی أنّ التكلیف بالمهمّ على نحو تعلّقه بالطبیعة المجرّدة عن الخصوصیات الفردیة فی ظرف التكلیف بالأهم على نحو تعلّقه بخصوص الفرد محال أم لا؟

وقوله: إنّ الامتناع الشرعی كالامتناع العقلی، لیس من المسلّمات.

هذا، ولكن لا یذهب علیك: أنّ ما ذكرناه من إمكان صدور الأمر بالضدین إنّما هو مختص بصورة عدم تضیّق الموسّع، وأمّا فی صورة تضیّق وقته بحیث لو لم یأت بهذا الفرد لما تحقّق الإتیان بالطبیعة المأمور بها فلا محیص عن القول بأنّ الفرد الأخیر یكون مأموراً به بالأمر التبعی للتحفظ على الطبیعة المأمور بها عن العصیان والفوت، فحینئذٍ

 

لو كان ذلك مزاحماً للأهم یكون الأمر به من الأمر بالضدّین. هذا كلّه فیما یكون أحدهما موسّعا دون الآخر.

وأمّا إذا كان کلّ منهما مضیّقاً وموقّتاً بالزمان الّذی تضیّق به الآخر، فلا یمكن تصویر الأمرین، بل لابدّ وأن یؤتى بالمهمّ بقصد المحبوبیة الذاتیة، لأنّ عبادیة العبادة لا ینحصر طریق تحصیلها بقصد الأمر، بل یمكن القول بكفایة قصد محبوبیتها الذاتیة، كما لا یخفى.

 

([1]) هذا التحقیق مبنی علی ما هو الحق من تعلّق الأمر بالطببیعة وعدم سرایته إلی الأفراد.

([2]) إلّا علی ما سیأتی فی بحث اجتماع الأمر والنهی فی ثمرة النزاع.

موضوع: 
نويسنده: