چهارشنبه: 5/ارد/1403 (الأربعاء: 15/شوال/1445)

الفصل العاشر:
فی متعلّق الأوامر والنواهی

إعلم: أنّ الاُصولیّین قد اختلفوا فی أنّ متعلّق الأوامر هل تكون الطبائع أو الأفراد؟

فذهب بعضهم إلى أنّ متعلّقها الطبائع. والبعض الآخر إلى أنّ متعلّقها الأفراد.

ولا یخفى: أنّ مراد القائل بالطبیعة: أنّ متعلّق الأمر فی قولنا: ادخل السوق واشتر اللحم، لا یكون إلّا الجهة الّتی یصدق علیها شراء اللحم من غیر دخل لسائر الخصوصیات والحیثیات فیه، فإذا دخل العبد السوق واشترى اللحم فالمصحّح للقول بأنّه امتثل أمر المولى لیس إلّا جهة إتیانه بهذه الحیثیة الّتی یصدق علیها شراء اللحم، فتكون هذه الجهة مناطاً لصدق العنوان.

وأمّا مراد القائل بالفرد: أنّ جمیع الحیثیات الفردیة والجهات الممیّزة للفرد تكون واقعة تحت الأمر.

وممّا یؤیّد ما ذكرناه من مراد القائلین بالطبائع: أنّ المجوّز فی باب اجتماع الأمر والنهی یقول: إنّ متعلّق الصلاة لا یكون إلّا الجهة الّتی یصدق على الفعل أنّه صلاة، ومتعلّق النهی عن الغصب لیس إلّا الجهة الّتی بها یصدق على العمل أنّه غصب، فتختلف الجهتان فیمكن اجتماعهما فی محلّ واحد.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ لمفهوم الأمر ـ وكلّ لفظ كان مفاده مفاد الأمر كالإلزام

 

والبعث والإیجاب والطلب ـ إضافة إلى الّذی یصدر منه الطلب والأمر وهو الآمر؛ وإضافة إلى من یطلب منه الفعل المأمور به وهو المأمور والمطلوب منه؛ وإضافة إلى ما یرید الآمر وقوعه فی الخارج وتحقّقه وهو المطلوب والمأمور به.

ویشترط فی تحقّق هذه الإضافات أن یكون المأمور موجوداً ـ حال الطلب والأمر ـ فی الخارج، لاستحالة توجیه الخطاب نحو المعدوم.

وأمّا المأمور به فیشترط أن لا یكون موجوداً فی الخارج وإلّا یلزم تحصیل الحاصل. مضافاً إلى أنّ لحاظ الحیثیّات الممیّزة لأفراد، غیر حاكٍ عن سائر الأفراد الممیّزة بحیثیات اُخرى. وحیث إنّه لابدّ من تعلّق الطلب بالمطلوب ولا یمكن اتّصاف الموجود فی عالم الخارج بالمطلوبیة، فیكون المطلوب بوجوده الذهنی مطلوباً ومتعلّقاً لإضافة الأمر إلیه، فالآمر حین الأمر یلاحظ الجهة الّتی بسببها ینطبق على الفعل الخارجی الصلاة والصوم مثلاً، من غیر أن تكون ملاحظتها فی الذهن قیداً لها؛ لأنّه لو لاحظها مقیّدةً بقید لحاظها فی الذهن فلا یكون له موطنٌ إلّا الذهن، فلا یكون حاكیاً عن الخارج وعن الجهة الخارجة الّتی بها یصدق على الأفراد الخارجیة أنّها مطلوبة.

وبالجملة: ما هو المتعلّق للأحكام لیس إلّا الجهة المشتركة والحیثیة الّتی توجد فی جمیع الأفراد من غیر دخل لسائر الحیثیّات والجهات والخصوصیّات الفردیّة والممیّزة، هذا.

ثم إنّه لایخفى: أنّ صاحب الكفایة+ ذهب إلى أنّ متعلّق الأحكام لیس إلّا نفس الطبائع من دون نظر إلى الخصوصیات الفردیة، ولكن لیس المراد من ذلك نفس الطبیعة بما هی هی؛ لأنّه یلزم من تعلّق الطلب بنفس الطبیعة أخذ شیء زائد على الذات فی مرتبة الذات واستحقاق الماهیة فی مرتبة ذاتها لصدق أمر زائد علیها وهو المطلوبیة، وهذا محال؛ لأنّ الماهیة من حیث هی لیست إلّا هی، ولذا قالوا فی مبحث

 

أصالة الوجود: إنّ ارتفاع النقیضین فی مرتبة الذات لیس بمحال، فالماهیة من حیث هی لا تكون موجودة ولا معدومة، فیصحّ أن یقال: إنّ الإنسان فی مرتبة ذاته وماهیّته لیس بعالم ولیس بجاهل.

بل مرادهم أنّ متعلّق الطلب وجود الطبیعة، ومتعلّق الأمر نفس الطبیعة، لأنّه بمعنى طلب الوجود. وكذلك النهی یتعلّق بنفس الطبیعة بمعنى طلب تركها.

لا یقال: إذا كان الوجود متعلّقاً للطلب فلا یصحّ القول بعدم مطلوبیة الخصوصیات الفردیة؛ لأنّه لا یمكن بعد القول ببساطة الوجود تصوّر التفكیك بین وجود تلك الجهة المشتركة وسائر الجهات، لأنّهما موجودان بوجود واحد.

لأنّه یقال: إنّ متعلّق الحكم لیس مطلق الوجود حتى یرد علینا ما ذكر، بل المتعلّق هو الوجود المضاف إلى الطبیعة.

ولا ینبغی توهّم([1]) أنّ مقتضى ما ذكر ـ من تعلّق الطلب بوجود الطبیعة ـ أن یكون الطلب متعلّقاً بما هو حاصل وصادر فی الخارج وتحصیلاً للحاصل.

لأنّ المراد أنّ الآمر یرید صدور الوجود من العبد وجعله بسیطاً، كما هو مفاد «كان» التامّة، وإفاضته.

كما أنّه لا مجال بعدما ذكر لتوهّم تعلّق الطلب بالطبیعة لأجل وجودها، والنهی بالطبیعة لأجل عدمها حتى یكون وجود الطبیعة غایة لطلبها، وعدمها غایة للنهی عنها.

لأنّه یعود الإشكال المذكور وهو جواز حمل ما هو زائد وخارج عن الذات علیها، هذا كلّه بناءً على أصالة الوجود.

وأمّا بناءً على أصالة الماهیة، فمتعلّق الطلب لیس هو الماهیة بما هی

 

أیضاً بل بما هی بنفسها فی الخارج، فیطلب الماهیة كذلك لكی یجعلها بنفسها ـ لا بوجودها ـ من الخارجیات والأعیان الثابتة. انتهى حاصل ما أفاده.([2])

ولكن قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا مانع من تعلّق الأمر والطلب بالطبیعة من غیر فرق بینهما، فلا وجه لمنعه فی الكفایة تعلّق الطلب بها مع اعترافه بتعلّق الأمر بها بتوهّم أنّ الأمر طلب الوجود وأمّا الطلب فلا یمكن أن یكون متعلّقاً بغیر الوجود بناءً على القول بأصالة الوجود. وأمّا بناءً على القول بأصالة الماهیة فیتعلّق الطلب بالماهیة لكن بلحاظ وجودها.

فالحقّ كما ذكرناه: تعلّق الأمر وكذا الطلب بنفس الطبیعة، أی بالحیثیة الّتی تدلّ علیها مادّة الأمر، مثلاً فی قوله: ﴿أَقیمُوا الصَّلَوةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ([3]) لا یتعلّق الأمر إلّا بالجهة الّتی تصدق علیها أنّها إقامة الصلاة وإیتاء الزكاة.

لا یقال: إنّ الطبیعة وماهیة إقامة الصلاة وإیتاء الزكاة أو الضرب أعمّ من أن تكون موجودة أو معدومة فتصدق إقامة الصلاة على تلك الحیثیة سواء كانت موجودة أم معدومة، فلا یصحّ أن تكون متعلّقة للطلب وواقعة تحت الأمر، لأنّ الأمر والطلب لا یتعلّقان بأعمّ من الموجود والمعدوم.

فإنّه یقال: لا مجال لهذا الإشكال، إذ الماهیّة فی حال كونها معدومة آبیة عن صدق المفاهیم علیها ولا یصحّ حمل إقامة الصلاة مثلاً على ما هو المعدوم؛ لأنّ العدم باطل بالذات ولیس له استحقاق حمل مفهوم علیه.

وبالجملة: فالعقل وإن كان یرى للضرب الموجود حیثیة موجودة، وماهیة وجهة

 

یصدق علیها أنّه ضرب، لكن یراهما فی عالم التحلیل ممتازاً عن الآخر وإن كانا متّحدین معاً مصداقاً بحیث لا یكون فی الخارج إلّا شیئاً واحداً.

ولأجل هذه التجزئة والتحلیل یُشكّ فی أنّ الصادر من المصدر والمفاض من المفیض، وبعبارة اُخرى: الصادر بالذات هل هو وجود الضرب وتعلَّق الجعل بتبعه إلى الماهیّة كما اختاره القائل بأصالة الوجود، أو أنّ المجعول بالذات والمفاض هو ماهیة الضرب وتعلَّق الجعل بتبعها إلى الوجود؟

ولكن مع ذلك كلّه لا یصدق مفهوم الضرب على الماهیة المعدومة. ولا مانع من تعلّق الطلب والأمر بالجهة الّتی یصدق علیها مفهوم الضرب أو إقامة الصلاة، فالآمر یطلب إصدار هذه الطبیعة من المكلّف، ولا نظر له إلى أنّ الإصدار یتعلّق أوّلاً بالوجود أو بالماهیة.

وأمّا ما فی كلامه& من «أنّ الطبیعة من حیث هی لیست إلّا هی»، فغیر مربوط بالمقام؛ لأنّ معنى هذه القاعدة أنّ الماهیة إذا اُخذت بنفسها ومجرّدة عن جمیع الخصوصیات لا یصحّ حمل شیء علیها إلّا ذاتها وماهو جزء ذاتها، مثلاً ماهیة الإنسان من حیث هی هی آبیة عن حمل جمیع المفاهیم علیها إلّا مفهوم ذاتها أو جزء ذاتها، فلا مانع من أن یقال: الإنسان إنسان، أو حیوان، أو ناطق. فلا یصدق علیه ـ إذا اُخذ موضوعاً ـ إلّا الإنسان أو الحیوان أو الناطق، ولا یحمل علیه أنّه جاهل أو عالم وشبههما. ولكن عدم صحّة حمل شیء على الماهیة من حیث هی هی غیر ذاتها أو جزء ذاتها لا ینافی صحّة إضافة شیء وتعلّقه بالماهیة من حیث هی هی، فمن الممكن بل الواقع كثیراً إضافة أمر إلیها كإضافة التصوّر والعلم والقدرة والطلب. فهذه الاُمور تتعلّق بها من حیث هی هی، وهذا لا ینافی خروجها بعد ذلك من هذه الحیثیة واستحقاق الماهیة لحمل ما كان زائداً على ذاتها علیها، مثل أن تقول: الطبیعة متصوّرة

 

أو معلومة أو مطلوبة؛ لأنّ تعلّق القدرة والتصوّر والعلم والطلب قبل عروض تلك الصفات علیها وفی رتبة سابقة علیها.

فظهر ممّا ذكر أنه لا مانع من تعلّق الأمر والطلب بالطبیعة المجرّدة عن جمیع الخصوصیات وإن كانت بعد إضافته إلیها تستحقّ حمل أنّـها مطلوبة. والله تعالى أعلم بالصواب.

 


([1]) راجع: الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص126.

([2]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص222-224.

([3]) البقرة،  43.

موضوع: 
نويسنده: