جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

الفصل الأوّل:
فی معنى المنطوق والمفهوم

والحقّ: أنّ المنطوق والمفهوم من صفات المدلول. وانقسامه إلیهما من جهة اختلاف خصوصیة الدلالة، فباعتبار وجود إحدى الخصوصیتین فی دلالة الكلام یسمّى المدلول مفهوماً، أو منطوقاً. ولا یوجب هذا كونهما من صفات نفس الدلالة وإن كان ربما یوجد فی كلماتهم تقسیمها إلى المفهومیة والمنطوقیة.

فدلالة اللفظ تارة: تكون بحیث یسمّى مدلوله بحسب هذا النحو من الدلالة مفهوماً. واُخرى: تكون بحیث یسمّى مدلوله منطوقاً.

وربما یظهر من كلمات القدماء عدم وضوح مفادهما عندهم، ولذا وقع الاختلاف بینهم فی أنّ دلالة الغایة فی ﴿أَتِمُّوا الصِّیَامَ إِلَى اللَّیْلِ﴾([1]) على عدم وجوب الصوم بعد اللیل، هل تكون بالمفهوم أو بالمنطوق؟

وعلى کلّ حال فلا یخفى علیك: أنّ الشیخ& بعدما أفاد انحصار المدلول المطابقی فی المنطوق وكذلك المدلول التضمّنی ـ إلّا على قول من زعم أنّ دلالة الجملة الشـرطیة على الحكم المفهومی إنّما هی بالتضمّن؛ فإنّه على هذا ینقسم المدلول التضمّنی إلى المفهوم والمنطوق ـ وانقسام المدلول الالتزامی إلیهما، ونقل تعریف

 

الحاجبی وتفسیر العضدی له، وغیر ذلك؛([2]) أفاد فی ذیل كلامه بأنّ التحقیق فی المقام: أن یقال: إنّ لوازم المدالیل المفردة خارجة عن المقسم. وأمّا المدالیل الالتزامیة للمركّبات، فما كان منها لا یقصد دلالة اللفظ علیه وإن كان یستفاد منه، یكون خارجاً عن المفهوم. وما كان یقصد دلالة اللفظ علیه، فإن كان الحكم المستفاد من الكلام المنطوق به مفاده مفاد قولك لا غیر، كما فی مفهوم المخالفة مثل قولك: زید قائم غیر عمرو. أو كان الحكم ثابتاً للغیر على وجه الترقّی كما فی مفهوم الموافقة فهو المفهوم بقسمیه، وإلّا فهو المنطوق.

وبعدما أفاد فی توضیح مراده هذا، قال فی آخر كلامه: بأنّه غایة ما یمكن أن یقال، إلّا أنّه بعد إحالة على المجهول.([3])

وهكذا حال غیره ممّن تأخّر عنه، فلم یأتوا بما یوضح مفادهما ویظهر به حقیقتهما.

والّذی ینبغی أن یقال: إنّ الدلالات الثلاث كلّها منطوقیة، ولیست إحدى منها مقسماً للمنطوق والمفهوم. وكما أشرنا إلیه أنّ مفادهما لیس مجهولاً عندهم كما زعمه الشیخ& وغیره، بل الظاهر أنّهما عندهم بمكان من الوضوح، وعدم اختلاف بینهم فی مفادهما. فما یدلّ علیه اللفظ فی محلّ النطق هو المنطوق. وما یدلّ علیه لا فی محلّ النطق هو المفهوم.([4])

ومرادهم من هذا التعریف: أنّ الّذی یستفاد من كلام المتکلّم ویصحّ أن یقال بأنّه قال كذا وتكلّم بكذا أو أخبر عن كذا أو أمر بكذا ونهى عن كذا، ویصحّ أن یحتجّ بسببه معه بأنّك قلت هكذا وأمرت بكذا، ولا یصحّ له أن ینكره، هو المنطوق. وأمّا ما

 

لا یكون كذلك ویمكنه فی مقام الاحتجاج إنكار التكلّم به وأن یقول ما نطقت به، ولا یقال فیه: إنّه قال كذا، هو المفهوم.

فعلى هذا، یكون المفهوم خارجاً من الدلالات الثلاث.

ولا یخفى علیك: أنّ الدلالات بحسب اصطلاحهم غیرها بحسب مصطلح المنطقیّین؛([5]) فإنّ تقسیمهم راجع إلى الألفاظ المفردة ومرادهم من الدلالة الالتزامیة ما یدلّ علیه اللفظ بالالتزام فی عالم الذهن والتصوّر، و یكون لازم وجود المعنى المطابق فی عالم الذهن، سواء كان لازماً لوجوده الخارجی أو لم یكن، بل كان مبایناً معه كالعمى والبصر.

وأمّا الدلالات بحسب اصطلاح الاُصولیّین فتقسیمهم إیّاها راجع إلى الألفاظ المرکّبة. فدلالة الجملة على مجموع ما تدلّ علیه أجزاؤها المفردة موسومة بالمطابقة، فاتّحاد الموضوع وهو زید مع المحمول وهو القیام بحیث یكون الموضوع معروضاً له وكان القیام قائماً به، هو المعنى المطابقی.

ودلالة الجملة على جزء هذا المعنى وهو كون بعض أجزائه كرِجله أو رأسه أو غیرهما معروضاً لوضع خاصّ ومتّحداً معه، عبارة عن التضمّن.

ودلالة الجملة على لوازم هذا المعنى ـ لكن لا على ما كان لازمه بحسب الذهن، أی لازم وجوده الذهنی كما استقرّ علیه اصطلاح المنطقیین، بل على ما كان لازم وجوده الخارجی ـ تسمّى بالالتزام.

وهذه الدلالات الثلاث كلّها دلالات منطوقیة، ولیست واحدة منها مفهومیة؛ فإنّه یصحّ الاحتجاج مع المتکلّم بکلّ واحدة منهنّ، ویصحّ أن یقال بأنّك قلت هكذا أو أخبرت عن هذا، بالنسبة إلیهنّ على السواء.

 

وبالجملة: الغرض من ذلك كلّه: بیان أنّ المفهوم لیس من الدلالات الثلاث حتى یقال بأنّ حجّیته لو ثبت أصله غنیّة عن البیان، وأنّ النزاع واقع فی الصغرى كما زعمه المتأخّرون،([6]) ولذا نرى أنّ القدماء یستدلّون لحجّیة مفهوم الشرط وغیره من المفاهیم بأنّه لو لم تكن حجّة لكان أداء الكلام بهذا النحو لغواً، فیفهم من هذه عدم كون المفهوم عندهم من الدلالات الثلاث،([7]) وأنّ النزاع یكون كبرویاً وإلّا لما احتاجوا إلى الاستدلال لحجّیته.

والمتأخّرون حیث اشتبه علیهم ذلك وتوهّموا أنّه قسم من المدلول بالدلالة الالتزامیة صاروا فی مقام إثبات أصل المفهوم من طریق ظهور ذكر العلّة على انحصارها.([8])

والحاصل: أنّ تمسّك القدماء لحجّیة المفهوم بدخالة القید فی ثبوت الحكم وإلّا یلزم كون القیود المذكورة فی الكلام لغواً، یدلّ على أنّ المفهوم غیر المدالیل الّتی یدلّ علیها اللفظ بإحدى الدلالات الثلاث، وأنّ النزاع الواقع فی المقام لا یكون إلّا كبرویاً.

 

([1]) البقرة، 187.

([2]) الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص167 (بدایة البحث).

([3]) الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص169.

([4]) القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص167؛ الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص145.

([5]) انظر: العلّامة الحلّی، الجوهر النضید، ص8؛ قطب الدین الرازی، شرح المطالع، ص28؛ قطب الدین الرازی، شرح الشمسیة، ج19، ص21- 22.

([6]) الأصفهانی، هدایة المسترشدین، ص280؛ الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص169؛ الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص301-302.

([7]) الشریف الرضی، الذریعة إلی اُصول الشـریعة، ج1، ص323-324؛ الطوسی، العدّة  فی اُصول الفقه، ج1، ص409-410.

([8]) الطباطبائی، مفاتیح الاُصول، ص 218، 221؛ الموسوی القزوینی، ضوابط الاُصول، ص105؛ الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص150، 152؛ القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص181؛ الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص183؛ الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص302؛ الخراسانی، فوائد الاُصول، ج2، ص481.

موضوع: 
نويسنده: