جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

التمسّك بالعامّ فی المخصِّص اللبّی

أمّا الكلام فی المخصّص اللبّی، قد أفاد فی الكفایة: أنّه إن كان ممّا یصحّ الاتّكال علیه عند التكلّم ـ إذا كان المتکلّم بصدد البیان فی مقام التخاطب ـ فهو كالمتّصل؛ لأنّه لا ینعقد للعامّ ظهور إلّا فی الخصوص. وإن لم یكن كذلك فالظاهر بقاء العامّ فی المصداق المشتبه على حجّیته، فلابدّ من اتّباعه ما لم یقطع بخلافه.

وقال فی مقام الاستدلال على ذلك: بأنّ المولى إذا قال: «أكرم جیرانی» وقطع العبد بأنّه لا یرید إكرام من كان عدوا له منهم، كان أصالة العموم باقیة بالنسبة إلى من لم یعلم خروجه عن عموم الكلام للعلم بعداوته لعدم حجّة اُخرى بدون ذلك على خلافه. بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظیاً؛ فإنّ قضیّة تقدیمه علیه هو كون الملقى إلیه كأنّه كان من رأس لا یعمّ الخاصّ، كما كان كذلك حقیقة فیما كان الخاصّ متّصلاً. والقطع بعدم إرادة العدوّ لا یوجب انقطاع حجّیته إلّا فیما قطع أنّه عدوّه لا فیما شكّ فیه، كما یظهر صدق هذا من صحّة مؤاخدة المولى لو لم یكرم واحداً من جیرانه لاحتمال عداوته له، وحسن عقوبته على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنه، كما لا یخفى على من راجع الطریقة المعروفة والسیرة المستمرّة المألوفة بین العقلاء الّتی هی ملاك حجّیة أصالة الظهور.

وبالجملة: كان بناء العقلاء على حجّیتها بالنسبة إلى المشتبه هاهنا، بخلاف هناك.([1])

وفیه: أنّه لا فرق فی المخصّص اللفظی والمخصّص اللبّی فیما هو ملاك الإشكال وعدم صحّة الرجوع إلى العامّ إذا كانت الشبهة فی المصداق؛ لأنّه بعد القطع بأنّ المولى لا یرید إكرام من كان عدوّاً له من جیرانه نقطع بأنّ إرادته الجدّیة إنّما تعلّقت بإكرام من

 

كان من جیرانه غیر عدوّ له واقعاً، فإذا شكّ فی أنّ زیداً هل یكون عدوّاً للمولى حتى لا یجب إكرامه أو لا یكون عدوّه حتى یجب إكرامه؟ لا یجوز التمسّك بعموم «أكرم کلّ جیرانی» لإثبات وجوب إكرامه، وإلّا یلزم أن یكون العامّ الّذی یكون متكفّلاً لبیان الحكم الواقعی متكفّلاً لبیان الحكم الظاهری أیضاً وهو حكم الفرد المشكوك عداوته، وقد مرّ عدم إمكان بیان الحكم الظاهری والواقعی معاً فی خطاب واحد.

ثم إنّه قد ظهر لك: أنّ المحقّق الخراسانی+ إنّما فصّل بین المخصّص اللفظی واللبّی.

ولكنّ الشیخ+ ـ كما یظهر من تقریرات بحثه ـ یفصل بین ما إذا علم تخصیص العامّ بما فرض له عنوان وبأنّ الوجه فیه عدم جواز التمسّك بعموم العامّ فی الشبهات المصداقیة، وبین ما إذا علم تخصیص العامّ بما لم یؤخذ عنواناً فی موضوع الحكم، فالحقّ صحّة التعویل علیه عند الشكّ فی فرد أنّه من أیّهما.

وقال: إنّ أغلب ما یكون من القسم الأوّل إنّما هو فی التخصیصات اللفظیة، والثانی أغلب ما یكون إنّما هو فی التخصیصات اللبّیة.([2])

ولا یخفى ما فی هذا الكلام أیضاً؛ لأنّ مورد النزاع فی الشبهة المصداقیة لا یكون إلّا إذا كان التخصیص بعنوان من العناوین، وإلّا فلو لم یكن تخصیص العامّ بعنوان مأخوذ فى موضوع الحكم فلیس من محل النزاع بشیء؛ لأنّه على ذلك یكون المخصَّص وما خرج من تحت العموم فرداً  خاصّاً، فلو شكّ فی خروج غیره عن تحت العامّ ینتفی خروجه بأصالة عدم تخصیص الأكثر.

وسیأتی إن شاء الله‏ تعالى فی تنبیهات المسألة ما یمكن أن یكون كلام الشیخ+ راجعاً إلیه.([3])

 

هذا، ولقائل أن یقول: إنّه یمكن أن یكون اتّكال المولى ـ إذا كان بصدد البیان فی مقام التخاطب ـ على حكم العقل فی الموضوعات الخارجیة، ولا یكون اتّكاله على الحكم الكلی، مثلاً إذا قال: «أكرم جیرانی» لا یتّكل على الحكم الكلّی الّذی یكون للعقل ـ وهو عدم وجوب إكرام کلّ من كان عدوّه من جیرانه ـ حتى یقال بأنّه إذا شكّ فی فرد أنّه عدوّه أم لا، لا یصحّ التمسّك بالعامّ من جهة معلومیة عدم تطابق الإرادة الاستعمالیة مع الجدیة فی من كان عدوّه واقعاً وتطابقهما فیمن كان غیر عدوّه واقعاً ولو كان إحراز هذا التطابق بالأصل.

وإنّما یتّكل فی قوله: «أكرم جیرانی» على حكم العقل فی كلّ مورد یحرز بالوجدان مصداقیته للمخصّص من جهة ضمّ هذه الصغرى الوجدانیة ـ وهی أنّ هذا عدوّ للمولى ـ إلى الكبرى الكلیة ـ وهی كلّ من كان عدوه لا یجب إكرامه ـ فیحكم العقل بأنّ هذا لا یجب إكرامه، وكذلك فی سائر الموارد.

واتّكاله على الأحكام الجزئیة دون الحكم الكلّی الّذی للعقل إنّما یكون من جهة أنّه یرى لو اتّكل فی مقام بیان الحكم على الحكم الكلّی لا یكون العامّ حجّة للمكلّف فی موارد الشكّ، وبسبب هذا ربما یضیّع إكرام كثیر من جیرانه مع أنّهم لیسوا بأعدائه، فلأجل أن یكرم المكلّف جمیع من تعلّق إرادته الواقعیة بإكرامه، حتى المشكوك كونه عدواً له، یلقی العامّ ویتّكل على هذه الأحكام الجزئیة العقلیة، فیكون الخارج عن تحت العامّ کلّ فرد كانت عداوته معه معلومة، فیكون العامّ حجّة فی الفرد المشكوك ویجب إكرامه ظاهراً أیضاً، لكن لا بما أنّه مشكوك بل لأجل مصلحة عدم فوت إكرام الجار الّذی لا یكون عدواً له، فیكون فی المقام حكم واقعی وهو: وجوب إكرام کلّ من كان من جیرانه ولیس بأعدائه، وحكم ظاهری راجع إلى: وجوب إكرام الفرد الّذی شكّ فی عداوته، وحكم واقعی عقلی وهو: عدم وجوب إكرام الجار الّذی تكون عداوته معلومة، وهذا الحكم هو الحكم الّذی اتّكل علیه المولى فی مقام البیان.

 

فبناءً على هذا، لا مانع من التمسّك بالعامّ إذا شكّ فی عداوة فرد. ولا یرد علیه الإشكال المتقدّم (وهو عدم إمكان بیان الحكم الواقعی والظاهری بخطاب واحد)، لأنّ هذا لا یمكن إن كان الشكّ فی الواقع مأخوذاً فی موضوع الحكم الظاهری، وما نحن فیه لیس من هذا القبیل.([4])

 

([1]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص343 345.

([2]) الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص194.

([3]) یأتی فی الصفحة 367 (التنبیه الثانی).

([4]) لا یخفی: أنّ هذا وإن کان علی طبق القاعدة ولا إشکال علیه فی حدّ ذاته، إلّا أنّه لا یکون من الشبهة المصداقیة؛ لأنّه بعد فرض اتّکال المتکلّم علی الأحکام الجزئیة العقلیة لا مجال للشكّ فی وجوب إکرام الفرد الّذی یشكّ فی عداوته للمولی، لأنّه علی هذا یکون هذا الفرد واجب الإکرام قطعاً.

إلّا أن یقال بأنّا نشكّ فی أنّ اتّکال المولی هل یکون علی الحکم الکلّی أو الجزئی، فیدور الأمر بین الأقلّ والأکثر ویصیر کالشبهة المفهومیة، ولا مانع حینئذٍ من التمسّك بالعموم. [منه دام ظلّه العالی].

موضوع: 
نويسنده: