جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

التمسّك بالعامّ باستصحاب العدم الأزلی

إنّما الإشكال فیما إذا لم تكن للمشتبه مع حفظ وجوده حالة سابقة حتى تستصحب، فقد ذهب بعض إلى إمكان إثبات حكم العامّ بتقریبین:

أحدهما: إجراء الأصل، وهو استصحاب العدم المحمولی بالنسبة إلى المخصّص.

بیان ذلك: أنّ العامّ إنّما یؤثّر ویوجب الحكم بعنوانه لا من جهة اُخرى، فإذا فرض

 

إخراج بعض أفراده عن تحته یكون شموله واقتضاؤه للحكم على حاله بالنسبة إلى الباقی، وشمول العامّ للباقی لا یكون لأجل تخصّصه بخصوصیة أو تحیّثه بحیثیات، بل إنّما یشمله حكمه لمجرّد شمول العامّ له، فإذا استصحبنا عدم المخصّص الأزلی فی مورد مشكوك فیه فلا مانع حینئذٍ من التمسّك بالعامّ. فعلى هذا، إذا كان لنا عامّ مثل: «المرأة ترى الدم إلى خمسین»([1]) وكان لنا خاصّ وهو: «أنّ القرشیة ترى الدم إلى ستّین»،([2]) ثم شكّ فی امرأة أنّها قرشیة أم لا، فهی وإن كانت إذا وجدت وجدت إمّا قرشیة أو غیرها، ولا أصل یحرز بسببه أنّها قرشیة أو غیرها، فلا یصحّ استصحاب عدم كونها منتسبة إلى قریش بالعدم الرابط وما هو مفاد لیس الناقصة الّتی تقع فی الجواب عن الهلّیة المركّبة، إلّا أنّ استصحابه بالعدم المحمولی وما هو مفاد لیس التامّة الّتی تقع فی الجواب عن الهلّیة البسیطة یجدی فی إحراز أنّها ممّن لا تحیض بعد الخمسین؛ لأنّ المرأة الّتی لا تكون بینها وبین قریش انتساب تكون باقیةً تحت العامّ ویشملها العامّ بعنوانه، لا بما أنّها امرأة غیر متصفة بالقرشیة. فعلى هذا، نقول: إنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بین هذه المرأة والقریش یجدی فی تنقیح أنّها ممّن لا تحیض بعد الخمسین.

لا یقال: إنّ هذا الأصل یكون مثبتاً؛ لأنّ أصالة عدم تحقّق الانتساب بالعدم الأزلی لا تثبت كون هذه المرأة غیر قرشیة إلّا على القول بالأصل المثبت.

لأنّه یقال: قد قلنا بأنّ شمول حكم العامّ لجمیع أفراده لیس ملاكه إلّا عنوان العامّ، ولا یكون ملاكه الخصوصیات المختلفة الّتی تكون فی الأفراد، ولكن خروج الخاصّ

 

إنّما یكون بخصوصیة خاصّة، فإذا اُحرز عدم وجود هذه الخصوصیة فلا مانع حینئذٍ من التمسّك بالعامّ.

وثانیهما: جواز التمسّك بعموم العامّ بإجراء الاستصحاب فی العدم النعتی وما هو مفاد «لیس» الناقصة والواقع فی الجواب عن الهلّیة المركّبة، فنقول: إنّ هذه المرأة لم تكن قرشیة سابقاً ولو قبل وجودها، فیستصحب عدم كونها قرشیة.([3])

فإن قلت: إنّ الحكم بعدم كونها قرشیة بالعدم الرابط فی الزمان السابق إنّما یكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع، والحكم بعدمها قرشیة فی حال وجودها یكون من السالبة بانتفاء المحمول، فیختلف موضوع القضیّة المشكوكة مع المتیقّنة؛ لأنّ الموضوع فی القضیّة المتیقّنة یكون عدم وجود الصفة القرشیة للمرأة المعدومة، وفی القضیّة المشكوكة یكون عدم وجود هذه الصفة للمرأة الموجودة.

قلت: لا ضیر فی ذلك؛ لأنّ المنطقیّین إنّما قسّموا القضیّة إلى الموجبة والسالبة إلّا أنّ القضیّة السلبیة أعمّ من كون السلب فیها بالموضوع أو المحمول لیست قضیتین، فالمتیقّن هو عدم قرشیتها قبل وجودها والمشكوك فیه قرشیتها بعد وجودها فیستصحب عدم قرشیتها بعد وجودها وإن كان عدم قرشیتها قبل وجودها یكون من السالبة بانتفاء الموضوع وبعد وجودها من السالبة بانتقاء المحمول، إلّا أنّ ذلك لا یضرّ بصحّة الاستصحاب عند العرف، هذا.

وبعد ذلك كلّه لا یخفى علیك: أنّ المعتبر فی الاستصحاب وجود القضیة المتیقّنة، ونفی القرشیة عن المرأة والحكم بعدم كونها قرشیة إذا لم تكن موجودة یتوقّف عند العرف على وجودها حتى یجوز الإشارة إلیها بهذه، لا یشار إلى المرأة المعدومة بـ

 

«هذه»، ولا یرى العرف هنا وحدة بین القضیّة المتیقّنة والمشكوكة.

وبالجملة: أدلّة الاستصحاب منصرفة عن ذلك عند العرف، ولا یكون عندهم ترك المرأة ـ الّتی ترى الدم بعد الخمسین ـ أعمال المستحاضة من نقض الیقین بالشكّ، والعرف لا یعتبر هذه المرأة قبل وجودها منتسبة إلى قریش ولا یوصفها نفیاً أو إثباتاً بها.

ثم إنّه لا یخفى علیك: أنّ عبارة المحقّق الخراسانی& فی المقام، وهی قوله: «إیقاظ: لا یخفى أنّ الباقی تحت العامّ بعد تخصیصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل لمّا كان غیر معنون بعنوان خاصّ بل بکلّ عنوان لم یكن ذاك بعنوان الخاصّ كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعی فی غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكناً، فبذلك یحكم علیه بحكم العامّ... إلخ»،([4]) ربما كانت موهمة خلاف المقصود؛ لأنّ ظاهر هذا الكلام أنّ العامّ بعد التخصیص غیر باقٍ لموضوعیته للحكم بل إنّما یكون موضوعاً للحكم مع کلّ عنوان یكون غیر عنوان الخاصّ على نحو یكون کلّ واحد من العناوین المختلفة جزءًا لموضوع حكم العام، وهذا ممّا لا یقول به أحد.

بل مراده& أنّ عنوان العامّ باقٍ على موضوعیته فی غیر المخصّص، فنحن لا نحتاج فی مقام إثبات حكم العامّ إلّا إلى إحراز كون المشكوك تحت العامّ وهو محرز بالوجدان، وإلى إحراز عدم وجود عنوان المخصِّص وهو محرز بالأصل، فلا یصیر عنوان العامّ مقیّداً بقید حتى نحتاج لنفیه إلى استصحاب العدم النعتی والسلب الرابط المفقود فی المقام، ویكون استصحاب العدم الأزلی بالنسبة إلى عنوان المخصِّص لإثبات موضوع حكم العامّ مثبتاً. بل موضوعیة العامّ للحكم باقیةٌ على حالها وإنّما أخرج دلیل المخصِّص عنوان الخاصّ، فبعد إثبات انتفائه ولو باستصحاب العدم المحمولی لا مانع من الرجوع إلى العامّ، هذا.

 

وقد استشكل علیه بعض أعاظم المعاصرین([5]) بقوله: «إنّ جریان هذا الأصل إنّما یتمّ بناءً على توهّم إجراء حكم التقیید على التخصیص، وأنّ المخصِّص یقلّب العامّ عن تمام الموضوعیة إلى جزئه، وإلّا فبناءً على المختار، من أنّ باب التخصیص غیر مرتبط بباب التقیید، وإنّما یكون شأن المخصِّص إخراج الفرد الخاصّ مع بقاء العامّ على تمامیة موضوعه بالإضافة إلى البقیة بلا انقلاب فی العامّ، نظیر صورة موت الفرد، فلا یبقى مجال لجریان الأصل المذكور؛ إذ الأصل السلبی لیس شأنه إلّا نفی حكم الخاصّ عنه لا إثبات حكم العامّ ، لأنّ هذا الفرد حینئذٍ مورد العلم الإجمالی بكونه محكوماً بحكم الخاصّ أو محكوماً ـ بلا تغییر عنوان ـ بحكم العامّ، ونفی أحد الحكمین بالأصل لا یثبت الآخر، كما هو ظاهر.

نعم، فی مثل الشكّ فی مخالفة الـشرط أو الصلح للكتاب أمكن دعوى أنّه من الشبهة المصداقیة الناشئة عن الجهل بالمخالفة الّذی كان أمر رفعه بید المولى، وفی مثله لا بأس بالتمسّك بالعامّ فی الشبهة المصداقیة من دون احتیاج فی مثله إلى الأصل. ولعلّ بناء المشهور أیضاً فی تمسّكهم بالعامّ فی الشبهة المصداقیة مختصّ بأمثال المورد. وعلیك بالتتبّع فی كلماتهم ربما ترى ما ذكرنا حقیقاً بالقبول وهو الغایة المأمول». انتهى كلامه رفع مقامه.

وفیه: أنّ العامّ بعد تخصیصه لا یعقل أن یكون تامّاً فی الموضوعیة، فلابدّ وأن یكون العامّ بعد التخصیص مقیّداً بقید وجودیّ إذا كان عنوان المخصِّص عدمیّاً، وبقید عدمیّ إذا كان عنوان المخصِّص أمراً وجودیاً. وتقییده بهذا القید یكون فی الأوّل على نحو الوجود الرابط والنعتی، وفی الثانی بنحو السلب الرابط والعدم النعتی. فلا یفید لإثبات حكم العامّ استصحاب العدم الأزلی، كما زعمه المحقّق الخراسانی+؛ لأنّ أصالة عدم انتساب هذه المرأة إلى قریش على نحو العدم المحمولی لا یثبت عدم كون هذه المرأة بقرشیة على نحو العدم النعتی، والحال أنّ

 

العامّ إنّما یكون موضوع حكمه مقیّداً بعدم كونها منتسبة إلى قریش على نحو العدم النعتی.

لا یقال: إنّ معنى هذا دخول باب التخصیص فی باب التقیید.

لأنّه یقال: إنّ هذا لا یوجب إجراء حكم التقیید على التخصیص؛ لأنّ الكلام الملقى من المولى عامّ بالنسبة إلى جمیع أفراده، بمعنى أنّه لاحظ جمیع أفراد العامّ وموضوعیة کلّ منها للحكم، ثم أخرج بالدلیل المخصِّص بعض الأفراد، فالباقی إنّما یكون تحت العامّ من جهة كونه تمام موضوع الحكم بحسب الإرادة الاستعمالیة، ولا یصیر إخراج فرد سبباً لتعنون العامّ وتقیّده بقید كنقیض المخصِّص فی المثال المذكور حتى یكون الموضوع عنوان العامّ وذلك القید. نعم، إخراج الخاصّ موجب لتقیّد موضوع الحكم واقعاً وبحسب الإرادة الجدّیة، وهذا إنّما یكون على خلاف باب التقیید؛ فإنّ فیه یكون تمام الموضوع بعد التقیید مقیّداً بقید عدمیّ أو وجودیّ، كما سیأتی إن شاء الله‏ تعالى.

فلابدّ لنا من القول بتقیید الموضوع فی المقام؛ لأنّ ذلك لازم باب التعارض، بخلاف باب التزاحم، كما إذا قال: «أكرم العلماء» و«لا تكرم الفسّاق»، فإنّ فیه فی مقام الثبوت أیضاً لا نقول بالتقیید، لأنّ التزاحم إنّما یكون فی صورة فعلیة المقتضیین، وإنّما نقول بالأخذ بالأهمّ إذا كان فی البین، أو التخییر من جهة كون المرجع فیه العقل، وهذا لا یوجب تقییداً فی عالم الثبوت أصلاً، كما لا یخفى.

التنبیه الرابع: التمسّك بعمومات العناوین الثانویة([6])

لا یخفى أنّه لا مجال للتمسّك بالعمومات فیما إذا شكّ فی فرد لا من جهة

 

التخصیص بل من جهة اُخرى، كما إذا شكّ فی صحّة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف، فلا مجال لاستكشاف الصحّة بعموم مثل: «أوفوا بالنذور»([7])فیما إذا وقع متعلّقاً للنذر، بأن یقال: وجب الإتیان بهذا الوضوء وفاءً للنذر للعموم، وكلّ ما یجب الوفاء به لا محالة یكون صحیحاً، للقطع بأنّه لولا صحّته لما وجب الوفاء به.

ولا یخفى علیك: أنّ الشبهة فی المقام لیس من جهة احتمال التخصیص لعدم ورود تخصیص على عموم «أوفوا بالنذر» ولیس قوله: «لا نذر إلّا فی طاعة الله‏ تعالى».([8]) تخصیصاً له، بل إنّما هو تقیید لموضوع الحكم بلسان الحكومة لا إخراج النذر الّذی لیس فی طاعة الله‏. فعلى هذا، یكون الشكّ فی صحّة الوضوء بالمائع المضاف فی هذا المثال من قبیل الشبهة المصداقیة للعامّ، ولم یقل أحد بجواز التمسّك بعموم العامّ ـ فی الشبهة المصداقیة لنفس العامّ ـ وإن ذهب بعضهم إلى جواز التمسّك بالعامّ فی الشبهة المصداقیة المعروفة ـ ووجهه: استحالة كون الحكم مثبتاً لموضوعه ومكفّلاً لبیانه، وهذا واضح.

وأمّا تأیید هذا بما ورد من صحّة الإحرام قبل المیقات([9]) وصحّة الصوم فی السفر.([10])

ففیه: أنّه لا إشكال فی ذلك ـ ولو قلنا بعدم جواز التمسّك بالعموم فیما نحن فیه ـ

 

بحسب مقام الإثبات، لأنّه قد دلّت الروایات الواردة عن أهل البیت^ على صحّتهما وجوازهما، مع عدم صحّتهما لولا تعلّق النذر بهما، خلافاً للعامّة حیث إنّهم قائلون بالجواز مطلقاً.

وأمّا بحسب مقام الثبوت فیظهر من الكفایة التفصّی عن الإشكال بوجوه:([11])

أحدها: القول بوجود الرجحان الذاتی فیهما المستكشف بدلیل خاصّ، وإنّما لم یؤمر بهما لوجود مانع یرتفع بسبب تعلّق النذر بهما.

ثانیها: أن یكون النذر ملازماً لعروض عنوان راجح علیهما بعدما لم یكونا كذلك.

ثالثها: تخصیص عموم دلیل اعتبار الرجحان فی متعلّق النذر بهذا الدلیل، وعلیه نقول بكفایة الرجحان الطارئ علیهما من قبل النذر.

لا یقال: نعم، لا مانع من التخصیص، إلّا أنّه لا یتمكّن من إتیانهما بقصد التقرّب؛ لأنّ وجوب الوفاء بالنذر إنّما یكون توصّلیاً ولا یعتبر فیه قصد القربة.

لأنّه یقال: لا مانع من صحّة الإتیان بقصد التقرّب بعد تعلّق النذر بإتیانهما عبادیاً ومتقرّباً بهما منه تعالى.

هذا، والّذی ینبغی أن یقال فی المقام: ـ بعد الغضّ عن عدم ارتباط ما ورد فی صحّة الصوم فی السفر والإحرام قبل المیقات إذا تعلّق النذر بهما بما نحن فیه، لأنّ القائل بجواز التمسّك بعموم النذر لإثبات صحّة الوضوء بالمائع المضاف إنّما تمسّك به لإثبات صحّة الوضوء فی مورد لا یكون متعلّقا للنذر أو یكون مطلقاً تعلّق به النذر أم لا، وهذا بخلاف الصوم فی السفر والإحرام قبل المیقات فإنّ صحّتهما إنّما تكون فیما إذا تعلّق النذر بهما ـ أنّ ما أفاد+ فی تصحیح النذر المتعلّق بالصوم والإحرام بحسب مقام الثبوت غیر وجیه.

 

أمّا الوجه الأوّل: (وهو القول بوجود الرجحان الذاتی) فهو منافٍ للروایات الواردة فیهما مثل أنّ الإحرام قبل المیقات یكون كالصلاة قبل الوقت([12]) وغیره ممّا یدلّ على عدم وجود رجحان ذاتی فیهما أصلاً.

وأمّا الوجه الثانی، ففیه: أنّ كون النذر ملازماً لعروض عنوان راجح علیهما ممّا یعلم خلافه، فما معنى هذا العنوان الراجح الّذی لیس له أثر فی الأخبار ولا یجیء فی الأذهان؟

وأمّا الوجه الثالث، ففیه: أنّه بناءً على ما ذهب إلیه فی مبحث التعبّدی والتوصّلی من عدم إمكان أخذ قصد الامتثال فی متعلّق الأمر،([13]) یرد علیه أنّ قدرة المكلّف على إتیان الصوم بقصد التقرّب موقوف على كونه متعلّقاً لأمر «أوفوا بالنذور» وكونه متعلّقاً لهذا الأمر موقوف على قدرة المكلّف على إتیان الصوم بقصد التقرّب (وقد اُشیر إلى هذا الإشكال الوارد علیه بتقریب آخر فی مبحث المقدّمة عند البحث فی تصحیح الواجبات الغیریة وعدم استقلالها).

وأمّا بناءً على ما ذهبنا إلیه من إمكان أخذ قصد التقرّب فی متعلّق الأمر وعدم وقوع محال منه،([14]) فلا إشكال.

فالأظهر أن یقال فی مقام الجواب عن هذا الإشكال: إنّ الدلیل الدالّ على تقیید موضوع حكم وجوب الوفاء بالنذر بكونه طاعة لله تعالى مخصّص بدلیل وجوب الوفاء بالنذر المتعلّق بالصوم فی السفر والإحرام قبل المیقات. ولا یرد علینا ما أوردناه على المحقّق المذكور، كما لا یخفى.

 

التنبیه الخامس: دوران الأمر بین التخصیص والتخصّص

إذا قال المولى: «أكرم کلّ عالم» وعلم عدم وجوب إكرام زید مثلاً وشكّ فی أنّه عالم حتى یكون العامّ مخصّصاً بدلیل عدم وجوب إكرامه، أو جاهل حتى لا یكون دلیل عدم وجوب إكرامه مخصّصاً لعموم العامّ؟ وهذا بخلاف الشكّ الواقع فی التخصیص فی سائر الموارد، مثل ما إذا قال: «أكرم العلماء» وعلم بأنّ زیداً عالم وشكّ فی شمول العامّ علیه من جهة كونه من أفراد المخصِّص. وأمّا فی ما نحن فیه، عدم محكومیة هذا الفرد بحكم العامّ ومحكومیته بحكم آخر معلوم، وإنّما الشكّ وقع فی كونه فرداً للعامّ حتى یكون خروجه عن حكمه ومحكومیته بحكم آخر تخصیصاً، أو لا یكون فرداً له حتى یكون خروجه تخصّصاً؟

وهذا معنى الكلام المعروف بینهم: إذا دار الأمر بین التخصیص والتخصّص فأیّهما أولى؟

مثال ذلك: نعلم بعدم جواز سبّ المؤمن ودلّ الدلیل على حرمة سبّه، ودلّ دلیل آخر على جواز لعن بنی اُمیّة قاطبة، فهل یكون خروج المشكوك إیمانه منهم من تحت عموم حرمة سبّ المؤمن من جهة عدم إیمانه حتى یكون خروجه خروجاً موضوعیاً وعلى نحو التخصّص، أو مع أنّه مؤمن وفرد للعامّ خرج عن عمومه بالتخصیص؟

ذهب بعضهم إلى جواز التمسّك بأصالة العموم والقول بعدم كونه فرداً للعامّ لأنّ الشكّ فیه یرجع إلى الشكّ فی ورود التخصیص على العامّ، ومقتـضى الأصل عدمه، فیحكم بعدم كونه مصداقاً للعامّ. ونتیجته إجراء کلّ حكم كان ثابتاً لهذا الفرد بکلّ عنوان كان غیر عنوان العامّ.

وذهب بعضهم إلى عدم جواز التمسّك بأصالة العموم فی إحراز كونه معنوناً بغیر عنوان العامّ، لاحتمال اختصاص حجّیتها بما إذا شكّ فی كون فرد العامّ محكوماً

 

بحكمه، لا فی كون المعلوم خروجه عن حكم العامّ من أفراده. ولأنّ المثبتات من الاُصول اللفظیة إنّما تكون حجّة إذا كان بناء العقلاء وسیرتهم علیها. ولم یعلم بناؤهم على ذلك.([15])

هذا، ولكنّ التحقیق فی المقام موقوف على ذكر مقدّمة قد مرّت الإشارة إلیها، وهی: أنّ باب الحقیقة والمجاز لیس افتراقهما من جهة أنّ استعمال اللفظ إذا كان فی المعنى الحقیقی یكون حقیقةً، وإذا كان فی غیر ما وضع له یكون مجازاً. بل إنّما یكون من جهة أنّ المتکلّم تارة: یلقی اللفظ ویستعمله فی المعنى الموضوع له لیحـضر ذلك المعنى فی ذهن المخاطب ویحكم علیه بما یرید، وهذا الاستعمال یكون استعمالاً حقیقیاً؛ ومرادهم من أصالة الحقیقة كون استعمال اللفظ على هذا النحو. وتارة: یستعمل اللفظ فی الموضوع له ولكن لا من جهة أن یحضر المعنى الموضوع له فی ذهن المخاطب ویحكم علیه، بل من جهة أنّه أراد أن یكون هذا المعنى عبرة وطریقاً لالتفات المخاطب إلى معنى آخر غیر المعنى الموضوع له، فیستعمل اللفظ فی ما وضع له اللفظ لكن یرید منه معنىً مناسباً له ادّعاءً، وهذا الاستعمال یكون استعمالاً مجازیاً. ولولا ذلك واستعمال اللفظ فی المعنى الموضوع له وجعله عبرة ومرآة لمعنى آخر لما كان هذا الاستعمال ملیحاً ولمّا یساعده الذوق السلیم. هذا إذا كان معنى اللفظ جزئیاً لا یشتمل على الكثیر.

وأمّا إذا كان الّفظ معنىً واحداً مشتملاً على الكثیر مثل: «كل عالم» و«العلماء»، فتارة: یستعمل ذلك اللفظ ـ الموضوع لهذا المعنى الوحدانیّ المشتمل على الكثیر ـ لیحضـر جمیع الأفراد المنطویة فی هذا المعنى فی ذهن المخاطب ویحكم على جمیع هذه الأفراد.

 

وتارة اُخرى: یستعمله فی معناه لكن یجعله عبرة لمعنى آخر كما مرّ. وثالثة: یرید المتکلّم إحضار بعض هذه الأفراد المنطویة فی هذا المعنى الواحد بالإجمال، من جهة أنّ حكمه لا یشمل جمیع هذه الأفراد بل إنّما یرید أن یشمل ذلك البعض دون غیره، لكن حیث لا یكون لهذه الأفراد ـ الّتی یرید إحضارها فی ذهن المخاطب ـ لفظ خاصّ، ولا یمكنه التعبیر عن کلّ واحد منها بلفظ خاصّ لأنّه یوجب التطویل، فیستعمل ذلك اللفظ فیما وضع له ـ وهو المعنى المذكور ـ حتى یحضر جمیع الأفراد المنطویة فی ذهن المخاطب ویحكم علیه، ویخرج ما یرید إخراجه وعدم شمول حكمه له بأدوات الإخراج.

فإذا شكّ فی هذا اللفظ المستعمل الموضوع للمعنى الواحد المشتمل على الكثیر، هل المتکلّم استعمله فی المعنى الموضوع له لیحضره فی ذهن المخاطب ویحكم علیه، أو لكونه عبرة وسبباً لانتقاله إلى معنى آخر؟ یكون المرجع أصالة الحقیقة.

وإن وقع الشكّ فی أنّه أراد إحضار جمیع الأفراد المنطویة فی هذا المعنى الواحد فی ذهن المخاطب لیحكم على جمیعها، أو لیحكم على بعضها ویخرج بعضها الآخر بأداة الإخراج؟ وبعبارة اُخرى: بعد العلم بكون جمیع الأفراد مراداً للمتكلّم بحسب الإرادة الاستعمالیة لو شكّ فی كون جمیع الأفراد مراداً له بحسب الإرادة الجدّیة بمعنى أنّه استعمل اللفظ فی هذا المعنى الواحد بالإجمال لیحضر جمیع الأفراد المنطویة فی هذا المعنى الواحد ویحكم على جمیعها، أو على بعض تلك الأفراد؟ یكون المرجع أصالة تطابق الإرادة الاستعمالیة مع الجدّیة. ویعبّر عن جمیع ذلك بأصالة العموم، فهی تكون مركّبة من أصالة الحقیقة وأصالة تطابق الإرادة الاستعمالیة مع الجدّیة.

إذا عرفت هذه المقدّمة، فاعلم: أنّ القائل بجواز التمسّك بأصالة العموم فی المقام لو أراد التمسّك بها لإثبات أنّ زیداً عالم، ففساده غیر محتاج إلى بیان؛ لأنّ التمسّك بها لا یثبت كونه عالماً.

 

وإن أراد إثبات دخوله فی المراد الاستعمالی دون مراده الجدّی، فهذا أیضاً معلوم الفساد؛ لأنّه لا یعلم كونه مراداً للمتكلّم بحسب إرادته الاستعمالیة.

وأمّا لو أراد بالتمسّك بأصالة العموم إثبات أنّه غیر عالم فلا یثبت بها؛ لأنّ قول القائل: «أكرم کلّ عالم» لا یدلّ على أزید من وجوب إكرام كل فرد من العلماء، وأمّا أنّ من لا یجب إكرامه یكون جاهلاً ولیس من العلماء فلا یثبت به، ولا یستدلّ العقلاء لإثبات كونه غیر عالم بأصالة العموم، كما لا یستدلّون بها لنفی كونه عالماً.

ثم لا یخفى: أنّه لا مجال لتوهّم كون النزاع فی المقام من صغریات النزاع فی التمسّك بعموم العامّ فی الشبهة المصداقیة أو نظیرها، كما توهّم بعض أعاظم المعاصرین.

التنبیه السادس: دوران الأمر بین التخصیص والتخصّص للتردّد بین فردین

إذا قال: «أكرم العلماء» ثم قال فی دلیل منفصل: «لا یجب إكرام زید»، ودار الأمر بین أن یكون المراد منه هو زید العالم حتى یكون تخصیصاً لعموم «أكرم العلماء»، أو زید الجاهل حتى یكون خروجه عنه بالتخصّص.

والظاهر جواز التمسّك بأصالة العموم لإثبات وجوب إكرام زید العالم؛ لأنّ عموم «أكرم العلماء» یشمله ولیس فی البین دلیل تامّ یدلّ على تخصیص هذا العموم بغیر زید العالم، وهذا واضح.

وإنّما الإشكال فیما إذا استعقب عمومه بحكم إلزامیّ كقوله: «لا تكرم زیداً» أو «اضربه»، ودار الأمر بین أن یكون زیداً العالم أو زیداً الجاهل.

فربّما یقال: بعدم جواز التمسّك بأصالة العموم فی مثل ذلك الّذی نعلم بتوجه تكلیف نحو المكلّف خلاف التكلیف الّذی یكون العامّ متكفّلاً له من جهة وجود الحجّة الإجمالیة، وهو قوله: «لا تكرم زیداً» أو «أهنه» فیدور الأمر بین حرمة إكرام زید العالم أو زید الجاهل، ومقتضى ذلك هو الاحتیاط.

 

لا یقال: هذا إذا لم یكن عموم العامّ موجباً لتعیّن الحرمة فی طرف زید الجاهل.

لأنّه یقال: إنّ دلیل العموم بمنزلة الكبرى الكلّیة وغیر متكفّلة لحال الأفراد، ولیس حاله حال البیّنة القائمة على أنّ زیداً العالم واجب الإكرام الموجبة لتعیّن الحرمة فی الطرف الآخر، فإنّها متكفّلة لبیان حال الفرد، دون دلیل العامّ الّذی لیس له نظر إلى خصوص حال الفرد، فلا یكون موجباً لتعیّن الحرمة فی الطرف الآخر، فیسقط العموم عن الحجّیة بالإضافة إلى زید العالم قهراً. وهذا البیان موافق لما فی تقریرات بحث بعض الأعاظم من المعاصرین([16]) مع أدنى تفاوت فی العبارة. وإنّما لم نعبّر ما فی كلامه بأنّ عموم العامّ لا یكون موجباً لانحلال العلم الإجمالی بل هو باقٍ على حاله.

ثم إنّه أفاد جواباً عن هذا الإشكال: بأنّ دلیل العامّ وإن لم یكن متكفّلاً لحكم خصوص فرد ابتداءً إلّا أنّه یثبت له الحكم بعد انضمام الصغرى الوجدانیة ـ وهی «أنّ زیداً عالم» ـ إلى الكبرى الكلّیة المستفادة من دلیل العامّ لا محالة. فإذا ثبت له الحكم الوجوبی بمقتضى العموم ترتفع عنه الحرمة بالملازمة، فتتعیّن الحرمة فی الطرف الآخر بالملازمة والمثبت من الاُصول اللفظیة لكونها ناظرة إلى الواقع یكون متّبعاً.([17])

ثم لا یخفى علیك: أنّ المعاصر المذكور لم یتعّرض للمبحث المذكور فی التنبیه السابق، ولعلّ كان نظره إلى حجّیة المثبتات من الاُصول اللفظیة فلا فائدة حینئذٍ للتعرّض له، لأنّه یعد هذا الملاك یجوز التمسّك بعموم العامّ لإثبات عدم كون ما شكّ فی فردیّته فرداً له بعد العلم بكونه محكوماً بحكم غیر العامّ.

وفیه: ما لا یخفى من الفرق بین المبحثین؛ لأنّ فی المبحث السابق إنّما قلنا بعدم جواز التمسّك بعموم العامّ لإثبات عدم كون ما شكّ فی كونه مصداقاً للعامّ مصداقاً له من

 

جهة عدم استقرار بناء العقلاء على التمسّك بأصالة العموم فی هذه الموارد لا من جهة عدم حجّیة مثبتات الاُصول اللفظیة، كما لا یخفى.

تذنیب: لا یخفى علیك: أنّ بعض الأعاظم من المعاصرین الّذی أشرنا إلى كلامه فی هذا التنبیه، حیث رأى أنّ القائل بجواز التمسّك بعموم العامّ فی الشبهات المصداقیة ربما یتمسّك لإثبات مراده بما عن المشهور بل عن جمیع الفقهاء ـ رضوان الله علیهم([18]) ـ من إثبات الضمان فیما إذا دار الأمر بین كون الید ضمانیة أو أمانیة، وكون من بیده المال مدّعیاً وصاحب المال منكراً؛ لأنّه لولا جواز التمسّك بالعموم فی الشبهة المصداقیة تكون هذه الفتوى منهم على خلاف القواعد، إذ القواعد تقتـضی أن یكون صاحب المال مدّعیاً لأنّه یدّعی ثبوت شیء فی ذمّة ذی الید، وأن یكون من بیده المال منكراً، ولكنّهم تمسّكاً بعموم: «على الید ما أخذت حتى تؤدّی»([19]) أفتوا بذلك مع وقوع الشكّ فی كون هذه الید ید أمانیة الّتی اُخرجت بالتخصیص عن عموم على الید، أم لا.فصار فی مقام تصحیح فتوى المشهور ولو لم نقل بجواز التمسّك بعموم العامّ فی الشبهة المصداقیة.([20])

ولكنّ الّذی ینبغی أن یقال فی المقام: إنّ فتوى المشهور بل جمیع الفقهاء ـ لأنّی لم أقف على أحد أفتى على خلاف ذلك ـ فی هذه المسألة، إنّما تكون مستنداً إلى الروایات الواردة فی المقام، من جملتها ما رواه فی الوسائل فی كتاب الودیعة عن الكلینی+ بإسناده عن إسحاق بن عمّار، قال: سألت أبا الحسن× عن رجل استودع رجلاً ألف درهم فضاعت، فقال الرجل: كانت عندی ودیعة، وقال الآخر:

 

إنّما كانت لی علیك قرضاً، فقال:«المال لازم له إلّا أن یقیم البیّنة أنّها كانت ودیعة».([21]) وغیرها من الروایات.([22])

اللّهمّ اجعل خاتمة أمرنا خیراً، وصلّ على نبیّك وآله الطاهرین.

 

 

 

([1]) بمضمونها روایات کثیرة، انظر: الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، ج2، ص335، أبواب الحیض، ب31.

([2]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، کتاب الطهارة، أبواب الحیض، ج2، ص335 337.

([3]) الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص194.

([4]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص345 346.

([5]) المرتضوی اللنگرودی، جواهر الاُصول، ج4، ص397 398.

([6]) انظر البحث فی الکفایة  (الخراسانی، ج1، ص346) (وهم وإزاحة). وأسند القول به إلی بعض. فانظر الدروس (الشهید الأوّل، ج2، ص151) عند قوله: «ولا یجزی الخمس (أی الرکعات) فصاعداً بتسلیمه إلّا أن یقیّده فی نذره علی تردّد». ونسب القول إلی العلّامة أیضاً، کما فی الحاشیة علی کفایة الاُصول للسیّد البروجردی&، ص516.

([7]) إشارة إلی قوله تعالی: ﴿وَلْیُوفُوا نُذُورَهُم﴾. الحجّ، 29.

([8]) الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، کتاب النذر والعهد، أبواب النذر والعهد، ج23، ص317 ـ 321، ب17.

([9]) راجع: الطوسی، تهذیب الأحکام، ج5، ص 53 ـ 54، باب المواقیت، ب6، ح 8 ـ 10؛ الطوسی، الاستبصار، ج2، ص163، ب93، باب من أحرم قبل المیقات، ح8 ـ 10؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب المواقیت، ج11، ص326 ـ 327، ب13.

([10]) الطوسی، تهذیب الأحکام، ج4، ص235، ب57 حکم المسافر والمریض فی الصیام، ح688/63 و689/64؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب من یصحّ منه الصوم، ص195 ـ 196، 198 ـ 199، ب10، ح1و7.

([11]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص349 350.

([12]) ما وجدنا روایات بهذا المضمون، ولکن ورد ما یفیده ویقرب منه فی الکافی (الکلینی، ج4، ص321 322، باب من أحرم دون الوقت، ح2و6). انظر أیضاً: الحرّ العاملی، وسائل الشیعة ، کتاب الحجّ، أبواب المواقیت، ج11، ص323 324، ب11، ح3و6.

([13]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص107 (ثانیتها).

([14]) تقدّم فی الصفحة، 124.

([15]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص352.

([16]) یقصد به المحقّق النائینی+ فی أجود التقریرات (ج1، ص457 458).

([17]) النائینی، أجود التقریرات، ج1، ص457 458.

([18]) راجع: العاملی، مفتاح الکرامة، ج5، ص209؛ النجفی، جواهر الکلام، ج25، ص262.

([19]) ابن أبی جمهور الأحسائی، عوالی اللئالی، ج1، ص224، ح106؛ أحمد بن حنبل، مسند، ج5، ص8؛ أبو داود السجستانی، سنن، ج2، ص318، ح3561.

([20]) النائینی، فوائد الاُصول، ج2، ص529.

([21]) الکلینی، الکافی، ج5، ص239، ح8؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، کتاب الودیعة، ج19، ص85، ب7، ح 1؛ ونحوه الفقیه (الصدوق، ج 3، ص 305)؛ والتهذیب (ج 7، ص 179، ح 788/1، باب الودیعة).

([22]) الکلینی، الکافی، ج5، ص238، ح3 4، باب ضمان العاریة والودیعة؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب الرهن، ج18، ص400 404، ب16 و17 و18.

موضوع: 
نويسنده: