جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الفصل الثامن:
شمول الخطابات الشفاهیة لغیر الحاضرین

هل الخطابات الشفاهیة مثل: «یا أیّها الناسُ» و «یا أیّها الذین آمنوا» مخصوص بالمشافهین ومن كان حاضراً فی مجلس التخاطب، أو یعمّ غیره ممّن كان غائباً عن مجلس الخطاب بل معدوماً؟ فیه خلاف.

والظاهر أنّ مرادهم بهذه الخطابات الخطابات القرآنیة. وهذا الاختلاف حدث بین القدماء من الاُصولیّین وبقی إلى الآن ذكره فی كتب الاُصول.

وقد أفاد المحقّق الخراسانی+ فی تحریر محلّ النزاع وجوهاً ثلاثة.([1])

والظاهر عدم كونها وجوهاً لتحریر محلّ النزاع وما یرجع إلیه روح البحث فی المقام، بل إنّما هی وجوه لما یمكن أن یكون ملاك هذا النزاع.

أحدها: أن یكون ملاك النزاع إمكان تعلّق التكلیف بالمعدومین كما یصحّ تعلّقه بالموجودین وعدمه.

ثانیها: صحّة المخاطبة مع الغائبین عن مجلس الخطاب ـ سواء كانوا موجودین أم معدومین ـ وعدمها.

ثالثها: أنّ بعد معلومیة إفادة مدخول أدوات الخطاب العموم والشمول

 

للحاضرین فی مجلس الخطاب والغائبین مطلقاً قبل دخول الأدوات، فهل یكون بعد دخول أداة الخطاب علیه مع كونها موضوعة للخطاب إلى الحاضرین باقٍ على حاله من إفادة العموم أم لا؟ وهل تكون الأدوات قرینة على عدم استعمال المدخول فی المعنى الحقیقی؟ وبالجملة: یدور الأمر بین رفع الید عن ظهور المدخول فی العموم، ورفع الید عن ظهور أدوات الخطاب فی اختصاصها بالمشافهة؛ فیكون ملاك النزاع على هذا الوجه (الثالث) لغویاً.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ ملاك النزاع لیس هو الوجه الأوّل ظاهراً؛ لأنّهم قد صرّحوا بأنّه لو قلنا باختصاص الخطاب بالمشافه یجب إثبات الحكم على غیره من المكلّفین بقاعدة الاشتراك، وهذا ینادی بأنّهم یجوّزون توجیه التكلیف نحو الغائبین عن مجلس الخطاب.([2])

كما أنّ الظاهر أنّه لیس الملاك الوجه الثالث.

وعلى کلّ حال، فنحن نتكلم فی الوجوه الثلاثة المذكورة ونقول:

أمّا الوجه الأوّل: وهو أن یكون ملاك النزاع إمكان توجیه الخطاب المتكفّل للتكلیف بما أنّه تكلیف لغیر من كان حاضراً فی مجلس الخطاب، فلا ریب فی أنّه إن اُرید بإمكانه إمكان تكلیف المعدوم وبعثه وزجره فعلاً، فلا یكون له معنىً معقولاً، ولا یظنّ بأحد أن یكون مراده هذا. وإن اُرید منه مجرد إنشاء الطلب وإلقاء اللفظ حتى ینتزع منه التكلیف والطلب وبعث المعدوم فی ظرف وجوده، فهذا معنى معقول لا مانع منه عقلاً، فلو أراد المولى صدور الفعل عن عباده المترتّبین فی سلسلة الوجود فلا مانع من أن ینشأ الطلب حتى ینتزع منه التكلیف على کلّ من یوجد فی ظرف وجوده.

 

هذا، ولكن المحقّق الخراسانی+ أفاد فی هذا الوجه: بأنّ المراد ـ من تعلّق الطلب بما هو أعمّ من الحاضرین وغیرهم من المعدومین ـ إن كان تعلّق الطلب فعلاً وحقیقةً، فهو ممتنع.

وإن كان المراد منه إنشاء الطلب وتعلّقه به مقیّداً بوجود المكلّف، فهو بمكان من الإمكان.

وإن كان المراد تعلّق الطلب بما هو أعمّ على نحو الإطلاق ـ بمعنى مجرّد إنشاء الطلب بلا بعث وزجر ـ وفائدة هذا الإنشاء صیرورته فعلیاً بعد وجود الشرائط وفقد الموانع، فلا مانع منه أیضاً.([3])

وأنت خبیر بأنّ الوجه الأخیر راجع إلى الوجه الثانی، لأنّ الطلب الإنشائی أیضاً لا یتعلّق بالمعدومین فعلاً. ولو قلنا بأنّ الطلب موضوع للطلب الإنشائی الإیقاعی، كما هو مختار المحقّق المذكور، فلا فائدة فی الطلب الإنشائی من غیر أن یكون متعلّقاً بالمكلّف فی ظرف وجوده. وانتزاع الطلب وصیرورته قابلاً لتحریك العبد بعد وجوده إنّما یكون من جهة تعلّق الطلب بالمكلّف فی ظرف وجوده وإنشائه لانبعاثه كذلك، لا من جهة مجرّد إنشاء الطلب.

فالتحقیق أن یقال: إنّ الطلب المتوجه إلى المعدوم فی حال كونه معدوماً محال، وإلى المعدوم بحسب حال وجوده لا مانع منه؛ وهذا أمر لم ینكره أحد من العلماء.

لا یقال: إنّ الطالبیة والمطلوبیة لابدّ وأن تكونا متكافئتین فی القوّة والفعل كما هو شأن المتضائفین، وعلیه فلابدّ من وجود طرفی التكلیف حتى یتحقّق.([4])

فإنّه یقال: فرق بین الإضافة المقولیة وبین الأعراض والصفات ذوات الإضافة كالعلم والقدرة وما شابههما؛ فإنّ فیها لا یلزم أن یكون كلّ واحد من طرفی الإضافة

 

موجوداً بالفعل بل یكفی وجود أحدهما؛ ألا ترى أنّ العالم موجود لكن المعلوم لیس بموجود، والقادر موجود والمقدور لیس بموجود، فلیكن الطلب والطالب أیضاً من هذا القبیل، فلا مانع من وجود الطلب والطالب مع عدم وجود المطلوب والمطلوب منه فعلاً.

وأمّا الوجه الثانی، وهو: إمكان مخاطبة المعدومین وتوجیه الخطاب نحوهم، فنقول: لا یخفى علیك: أنّ الخطاب عبارة عن توجیه الكلام نحو الغیر للإفهام، والظاهر أنّه لا یجب أن یكون مشتملاً على أدوات الخطاب، بل توجیه الكلام نحو الغیر یكون خطاباً سواء كان مشتملاً على أدوات الخطاب أم لا. نعم، لا مضایقة من القول بكون الخطاب فیما كان الكلام مشتملاً على أدوات الخطاب آكد، وهكذا إذا كان مشتملاً على أدوات التنبیه وأسماء الإشارة بل والضمائر. كما أنّ الظاهر أنّ الخطاب لا یجب أن یكون كلاماً بل یحصل بغیره مثل الكتابة.

ولا یجب أن یكون المخاطب موجوداً حین صدور الخطاب من المتكلّم، كما هو حال بعض العبائر المذكورة فی الكتب ك «أیّها القرّاء» وغیره.

وأمّا إذا كان الخطاب حاصلاً بالكلام فهو وإن كان یمكن أن یقال بوجوب كون المخاطب موجوداً فی مجلس الخطاب، لأنّ الكلام یكون غیر قارٍّ بالذات عند القدماء. ولكن فی مثل زماننا حیث ظهر خلاف هذا الرأی وثبت بقاء الكلام فی عالم العین وقراره، فلا یضرّ بالخطاب الحاصل بالكلام أیضاً عدم وجود المخاطب (بالفتح) عند توجیه الكلام.

وأمّا الكلام فی الوجه الثالث: فأفاد المحقّق الخراسانی& بأنّ ما وضع للخطاب، مثل أدوات النداء، لو كانت موضوعة للخطاب الحقیقی فاستعماله فی الخطاب الحقیقی یوجب تخصیص ما یقع تلو هذه الأدوات بالحاضرین فی مجلس الخطاب، كما أنّ مقتضى إرادة العموم من مدخولها استعمال تلك الأدوات فی العموم.

 

ثم أفاد بعد ذلك بأنّ أدوات الخطاب لیست موضوعة للخطاب الحقیقی بل تكون موضوعة للخطاب الإیقاعی الإنشائی، فالمتکلّم تارة: یوقع بها الخطاب تحسّراً وتأسّفاً ونحوهما، وتارة: یوقع بها الخطاب حقیقة، فلا یصیر استعمال تلك الأدوات فی الخطاب الحقیقی سبباً لتخصیصها بمن یصحّ مخاطبته. نعم، دعوى الظهور انصرافاً فی الخطاب الحقیقی لیس ببعید. وهذا إذا لم تكن قرینة على خلافه كما هو الشأن فی الخطابات القرآنیة مثل: «یا أیّها الذین آمنوا» وغیره، ضرورة عدم اختصاص الحكم فیها بمن كان حاضراً فی مجلس الخطاب، كما لا یخفى... إلى آخر ما أفاده+.([5])

والّذی ینبغی أن یقال فی المقام: إنّ الخطاب الّذی هو عبارة عن توجیه الكلام نحو الغیر للإفهام لیس من الاُمور الاعتباریة الإنشائیة، فإنّ الأمر الاعتباری تارة: لا یكون ممّا بحذائه شیء فی الخارج كالملكیة والزوجیة وإنّما یوجده من بیده الاعتبار، وتارة: لا یكون بحذائه شیء فی الخارج ولكن لا یكون وجوده بإنشاء شخص واعتبار معتبر كالفوقیة والتحتیة، وثالثة: یكون بحذائه شیء فی الخارج وینتزع منه هذا الأمر كالمخاطبة الّتی تنتزع من نفس توجیه الكلام نحو الغیر، فالخطاب والمخاطبة لا یكون من الاُمور الإنشائیة بل إنّما ینتزع من نفس توجیه الكلام نحو الغیر.

وأیضاً نقول: لا شكّ فی أنّ الألفاظ المفردة إنّما وضعت لمعانیها المخصوصة، كما أنّ وضع الهیئات یكون بإزاء الانتسابات الّتی تكون بین بعض هذه المعانی مع الآخر سواء كان تلك الانتسابات تامة أو ناقصة. فالمتکلّم إذا تکلّم بکلام واستعمل الألفاظ فی معانیها الموضوعة لها إمّا یكون إفهام الغیر علّة غائیة لفعله هذا وهو تکلّمه وتلفّظه بتلك الألفاظ كما إذا أخبر بمجیء زید أو قیام عمرو إذا كان كلامه إخباراً؛ وكما إذا تکلّم بکلّام لحصول معنى اعتباری وإیجاده فی عالم الاعتبار وإیقاعه إذا كان كلامه

 

إنشاءً من غیر فرق فی ذلك بین الخطابات وغیرها. وإمّا تكون غایة فعله وتكلّمه إظهار الاشتیاق أو التحسّر أو شیئاً آخر من هذا القبیل، من غیر أن تكون علّته وغایته إفهام الغیر. ففی كلّ من الموردین یستعمل اللفظ فی معناه ولكن غرضه من ذلك یكون إفهام الغیر أو غیره، ولیس هذا مجازاً لفظیاً؛ لأنّه استعمال اللفظ فی المعنى الحقیقی وجعله عبرة وطریقاً لمعنى آخر، وإنّما یعدّ هذا من المجازات العقلائیة، ولذا لو شكّ المستمع فی أنّ الغایة الّتی أرادها المتكلّم من تکلّمه هل هی الإفهام أو غیره؟ یحمل على أنّه أراد الإفهام.

فظهر من ذلك عدم صحّة ما أفاده فی الكفایة من كون ما وضع له أدوات الخطاب یكون معنى أعمّ یعبّر عنه بالخطاب الإنشائی الإیقاعی، بل اللفظ یستعمل فی معناه الحقیقی وأدوات الخطاب أیضاً تكون موضوعة للخطاب الحقیقی وتستعمل فیه، ولكن المتکلّم تارة یتكلّم بها ویستعملها فی معانیها لإفهام الغیر، واُخرى لجهة اُخرى، هذا.

إذا عرفت ذلك، فنقول فی مقام بیان أصل المطلب: إنّ المراد بإمكان توجیه الخطاب نحو المعدومین وعدمه إن كان إمكانه فی حال كونهم معدومین، فلا یمكن قطعاً، ولیس قابلاً لأن یكون محلّ النزاع، ولا أظنّ بأحد أن یكون مراده هذا.

وإن كان المراد إمكان مخاطبة المعدومین فی ظرف وجودهم لانبعاثهم فی هذا الوقت، فلو كان ما یخاطب به شیئاً غیر قارٍّ بالذات كالكلام ـ بحسب رأی القدماء ـ لا یصحّ به مخاطبة المعدومین، وإن لم یكن كذلك بل كان ما یخاطب به ممّا یبقى منه أثر ویكون قابلاً لتحریك المعدومین فی ظرف وجودهم كالخطابات القرآنیة بل الخطابات المذكورة فی الكتب والرسائل، فلا مانع من مخاطبة المعدومین به فی ظرف وجودهم. ومثله ما إذا علم المتکلّم بأنّ كلماته تحفظ وتضبط وتنقل إلى الناس جیلاً بعد جیل. ولا یخفى: أنّ الخطابات القرآنیة من هذا القبیل؛ لأنّها اُنزلت لأن تكون سبباً لانبعاث جمیع الناس إلى طاعة الله تعالى شأنه.

 

وحاصل ما ذكرنا: أنّ الخطاب والمخاطبة لا تكون من الاُمور الإنشائیة الإیقاعیة، كما زعمه صاحب الكفایة، بل إنّما تكون من الاُمور الانتزاعیة الّتی تنتزع من نفس إلقاء المتکلّم الكلام نحو الغیر للإفهام، فلا تكون أدوات الخطاب موضوعة للخطابات الإیقاعیة الإنشائیة، بل هی للخطابات الواقعیة الحقیقیة. فما یظهر من كلامه ـ من أنّ خطاب المعدومین لا یمكن تصحیحه إلّا إذا قلنا بكون أدوات الخطاب موضوعة للخطاب الإیقاعی الإنشائی ـ فاسد جدّاً.

كما أنّ توهّم كون محلّ النزاع جواز مخاطبة المعدومین فی حال عدمهم وتوجیه الكلام نحوهم وعدم جوازها، كما یظهر أیضاً من كلامه، بعید من الصواب؛ لأنّه لا نزاع فی ذلك ولا یقول أحد بجواز خطاب المعدومین فی حال عدمهم حتى ینـحصر طریق تصحیحه على القول بأنّ أدوات الخطاب موضوعة للخطابات الإنشائیة.

بل محلّ النزاع إنّما یكون فی إمكان توجیه الكلام لإفهام المعدومین ـ فی ظرف وجودهم ـ ومخاطبتهم، وعدم إمكانه كذلك. وإمكان هذا بعد ما ذكرنا واضح لا سترة فیه إذا كان ما به یتحقّق الخطاب قابلاً لأن یبقى ولو بوجوده الكتبی.

ویدلّ على ما ذكرنا من توجّه الخطابات القرآنیة إلى الجمیع قوله تعالى: ﴿قُلْ أَیُّ شَیْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ الله‏ُ شَهیدٌ بَیْنی وَبَیْنَكُمْ وَأُوحِیَ إِلَیَّ هذَا الْقُرْآنُ لِاُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾.([6])

لا یقال: إنّ ظاهر هذه الآیةیدلّ على خلاف ما استدلّ به، من جهة عطف «وَمَن بَلَغ» على ضمیر الخطاب الواقع فی كلمة «لاُنذِرَكُم» فلو كان الخطاب شاملاً للمعدومین أیضاً لكان قوله «وَمَن بَلَغ» زائداً.

لأنّه یقال: إنّ المخاطب بهذه الآیة هو النبیّ| كما یدلّ علیه قوله: «قُلْ»، وفی مثله

 

لا مجال لدعوى شمول الخطاب للمعدومین كما هو كذلك فی سائر المخاطبات الّتی یكون المخاطب فیها رسول الله صلوات الله علیه وآله.

ولا یخفى أنّا لو لم نقل بأنّ المخاطب بالخطابات القرآنیة مثل: «یا أیّها الذین آمنوا» و«یا أیّها الناس» یكون جمیع المكلّفین وقلنا باختصاصه بالحاضرین فی مجلس الخطاب، یلزم منه القول بعدم توجیهها إلى الحاضرین فی مجلس النبیّ| والسامعین منه أیضاً؛ لأنّ الخطاب إنّما یكون ملقى على النبیّ| وهو المخاطب به، فلا یكون حال الحاضرین فی مجلسه إلّا حالنا؛ لأنّ النبیّ| یحكی القرآن ویقرأه ولا تكون قراءته كلام الله تعالى إلّا كقراءة غیره. هذا خلاصة الكلام فی المقام.

 

([1]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص354 355.

([2]) القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص240؛ الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص185؛ النائینی، فوائد الاُصول، ج2، ص549.

([3]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص355 356.

([4]) القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص229.

([5]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص356 359.

([6]) الأنعام، 19.

موضوع: 
نويسنده: