جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

الأمر الثالث: قیام الأمارات والاُصول مقام القطع الطریقی

لا یخفى: أنّه لا دخل للقطع ـ الّذی قلنا بأنّه منجّز للواقع ـ فی تحصّل الواقع المقطوع به، وذلك غیر خفیٍّ؛ لأنّه طریقٌ إلى الواقع وانكشافه، ولا یمكن أن یكون الطریق سبباً لتحصّل ذی الطریق.

نعم، لا مانع من تحصّل حكم آخر وتحقّقه بواسطة هذا القطع، كما إذا قال: إذا قطعت بوجوب الصلاة فتصدّق. وهذا تارةً: یكون تمام الموضوع للحكم. واُخرى: یكون جزء الموضوع بأن یكون الموضوع مركّباً من وجوب الصلاة والقطع به فی المثال.

فظهر من ذلك عدم إمكان أخذ القطع بالحكم فی موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور، وكذا فی موضوع مثله، كما لو فرضنا تعلّق الحرمة بالخمر الواقعی وتعلّق حرمة اُخرى به إذا كان مقطوع الخمریة، كقولنا: مقطوع الخمریة حرام؛ للزوم اجتماع المثلین

 

بناءً على أن یكون لازم تعلّق الحكم بشـیءٍ عروض عرضٍ علیه واتّصافه بذلك كما اختاره المحقّق الخراسانی&، فیلزم من أخذ القطع فی موضوع مثل هذا الحكم اجتماع المثلین فی موضوعٍ واحدٍ. وأمّا بناءً على ما اخترناه فی مبحث اجتماع الأمر والنهی من عدم كون الموضوع معروضاً للحكم بمعنى عدم كون الحكم عرضاً من الأعراض، فلا مانع من أخذه فی موضوع مثل هذا الحكم، فراجع.([1])

ثم إنّه قد ذكر الشیخ & قیام الأمارات والاُصول مقام القطع الطریقی،([2]) ومراده تنجّز الواقع بها؛ لأنّ الشارع إنّما اعتبر الأمارات وكذا الاُصول المحرزة لحفظ مصلحة الواقع، وعدم وقوع المکلّف فی مفسدة الحرام الواقعی، فالحكم یتنجّز بها كما یتنجّز بالقطع.

نعم، لو قلنا فی باب الأمارات بالسببیة والموضوعیة وأنّ قیام الأمارة مثلاً على وجوب فعلٍ سببٌ لوجوبه، لا مجال للقول بقیام الأمارة مقام القطع؛ لأنّ الحكم الّذی یثبت بسبب قیام الأمارة على هذا المبنى حكمٌ واقعیٌ موضوعه قیام الأمارة على وجوب هذا الفعل مثلاً، بخلاف ما هو المختار من كون الأمارة حجّة من باب الطریقیة.

ولیعلم: أنّ المراد من اعتبار الأمارة إنّما هو تنزیل المؤدّى منزلة الواقع، فمعنى قوله: «صدّق العادل» أو «اعمل بالبیّنة» هو وجوب البناء على أنّ ما أخبر به العادل واقعٌ، وترتیب آثار الواقع علیه. فلو قامت البیّنة على موضوعٍ ذی حكمٍ مثل: «إنّ هذا المائع خمرٌ» فمعنى اعتبارها ترتیب آثار الخمریة علیه، ومن جملتها حرمته ووجوب الاجتناب عنه. ولو قامت على حكمٍ شرعیٍّ، فمعنى اعتبارها إلغاء احتمال خلافه، والبناء على أنّه حكمٌ شرعی.

 

لكن یجب أن یكون الشیء الّذی قامت الأمارة علیه محتمل الوجود والعدم، وإلّا فلو كان مقطوع الوجود أو العدم فلا مجال لاعتبار الأمارة إذا قامت على أحد الطرفین.

وفی الجملة: معنى اعتبار الأمارة لیس إلّا تنزیل المؤدّى منزلة الواقع وإلغاء احتمال خلافه، وهو لا یكون إلّا فی موردٍ شكّ فیه وتطرّق إلیه احتمال کلّ من الوجود والعدم، وأمّا إذا قطعنا بوجود شیءٍ أو عدمه ـ حكماً كان أم موضوعاً ـ فلا مجال فیه للقول باعتبار الأمارة وتنزیل مؤدّاها منزلة الواقع.

وإذا عرفت ذلك تعرف أنّ معنى قیام الأمارة مقام القطع الطریقی لیس إلّا كونها سبباً لتنجّز التكلیف الواقعی، فكما أنّ فی صورة القطع بشیءٍ ـ حكماً كان أم موضوعاً ـ  یتنجّز الواقع بسببه ویستحقّ القاطع العقوبة على تركه لو صادف قطعه الواقع، فكذلك فی قیام الأمارة على حكمٍ أو موضوعٍ ذی حكمٍ شكّ فیه یتنجّز التكلیف بسببها أیضاً، ویستحقّ العقوبة على مخالفته لو صادفت الواقع، وفی صورة عدم المصادفة وترك العمل على مقتضـى الأمارة فیكون متجرّیاً كالقاطع.

وأنّه لا یمكن قیام الأمارة مقام القطع الموضوعی؛ لأنّه إذا كان لمقطوع الخمریة بما أنّه مقطوع الخمریة حكم فلا یثبت هذا الحكم لما قامت الأمارة على كونه خمراً، لتفرّع الحكم على وجود الموضوع وهو فی المقام معلوم الانتفاء، للعلم بعدم وجود مقطوع الخمریة، فالموضوع ـ وهو مقطوع الخمریة ـ معلوم العدم، وما قامت الأمارة علیه ـ وهو هذا المائع ـ لیس موضوعاً.

وممّا ذكرنا ظهر صحّة کلام الشیخ+ وما أفاده أوّلاً بقوله: «ثم من خواصّ القطع الّذی هو طریقٌ إلى الواقع قیام الأمارات الشرعیة والاُصول مقامه فی العمل».([3])

 

فإنّ قیام الطرق والأمارات والاُصول مقام القطع ـ كما أفاد ـ من خواصّ القطع الطریقی دون غیره.

وأمّا ما أفاده بعد ذلك ـ ممّا یناقض بظاهره هذا الكلام ـ بقوله: «بخلاف المأخوذ فی الحكم على وجه الموضوعیة، فإنّه تابعٌ لدلیل ذلك الحكم... إلخ»([4]) فنحن نحتمل أن یكون مراده ملاحظة الدلیل الدالّ على موضوع القطع فی مقام الإثبات. فإن كان راجعاً فی عالم الثبوت إلى أنّ الموضوع هو متعلق القطع وأنّه لیس للقطع دخلٌ فی الموضوع، وإنّما اُخذ فی لسان الدلیل لكونه طریقاً إلیه ـ كما هو المتعارف فی لسان أهل المحاورة، فیقولون: إذا علمت بمجیء زیدٍ فاستقبله، فإنّه لیس للعلم بالمجیء دخلٌ فی وجوب الاستقبال ـ قامت الأمارة والأصل مقامه، وإلّا فلا.

والدلیل على أنّ مراده هو هذا قوله: «ثم من خواصّ القطع... إلخ» وقوله: «على وجه الطریقیة للموضوع»، فإنّ الظاهر أنّ مراده من الموضوع هو موضوع الحكم.

وبالجملة: فهذا أقرب الوجوه الّتی یمكن أن تقال فی توجیه کلام الشیخ+.

وقد ذكروا له وجهین آخرین:

أحدهما: (وهو الأقرب من الوجه الآتی) أنّ القطع تارةً: یؤخذ بما أنّه صفةٌ قائمةٌ بنفس القاطع وهی اطمئنانه بانكشاف الواقع وعدم تزلزله فیه. وتارةً: یؤخذ فی موضوع الحكم بما أنّه صفةٌ للمقطوع به، لأنّ لازم تعلق القطع بشیءٍ وحصول الصفة القائمة بنفس القاطع عروض صفةٍ على ما قطع به، وهی كونه مقطوعاً به منكشفاً. فلو اُخذ على النحو الأوّل لم یمكن قیام الأمارات والاُصول مقامه، ولو اُخذ على النحو الثانی قامت الأمارة مقامه.

 

ولكنّ الحقّ عدم تمامیة هذا التوجیه، وقد أشار إلیه وإلى جوابه فی الكفایة بقوله: «وآخر بما هو صفةٌ خاصةٌ للقاطع أو المقطوع به... إلخ».([5])

ثانیهما: أنّ القطع تارةً: یؤخذ فی الموضوع بما هو انكشاف لا بما أنّه صفةٌ للقاطع أو المقطوع به، بل بما أنّه كشفٌ تامٌ للواقع. وتارةً: یؤخذ بما أنّه طریقٌ معتبرٌ إلى الواقع.

وبعبارةٍ اُخرى: یلاحظ القطع ویؤخذ فی الموضوع بجهته الجامعة بینه وبین سائر الطرق المعتبرة، فملاحظته إنّما تكون من حیث كونه أحد مصادیق الطرق المعتبرة.

فعلى الأوّل لا تقوم الأمارة مقامه. وعلى الثانی لا مانع من قیام الطرق والأمارات المعتبرة مقامه.

إن قلت: إذا لم یكن العنوان الواقعی موضوعاً كما هو المفروض فدلیل الحجّیة لا یشمل الأمارة القائمة علیه حتى تصیر مصداقاً للطریق المعتبر؛ لأنّ معنى حجّیة الأمارة فرض مدلولها الواقع وترتب آثار الواقع علیه، والمفروض فی المقام أنّ ما تعلّقت به الأمارة لیس له أثرٌ واقعیٌ بل الأثر إنّما یترتّب على العلم إن كان تمام الموضوع، وعلى الواقع المعلوم إن كان قیده.

قلت: ما ذكرته حقّ لا محیص عنه لو كان العلم تمام الموضوع ولم یكن لمتعلّقه أثرٌ أصلاً، ولكن إذا كان للمتعلّق أثرٌ آخر غیر ما یترتّب على العلم، كما إذا كان الخمر موضوعاً للحرمة واقعاً، وما علم بخمریته موضوعاً للنجاسة، أمكن إحراز الخمر تعبّداً بقیام البیّنة، لكونها ذات أثرٍ شرعیٍّ، وبعد قیام البیّنة یترتّب علیها ذلك الحكم الآخر الّذی یترتّب على العلم من حیث إنّه طریقٌ لتحقّق موضوعه قطعاً، فلا مانع فی مثل ذلك من قیام الأمارة مقام القطع الموضوعی.

 

وأمّا لو كان العلم قیداً للموضوع فیكفی فی إثبات الجزء الآخر كونه ذا أثرٍ تعلیقیٍّ بمعنى أنّه لو انضمّ إلى الباقی لترتّب علیه الأثر الشرعی، وكم له من نظیرٍ، فإنّ إثبات بعض أجزاء الموضوع بالأصل أو بالأمارة والباقی بالوجدان، غیر عزیزٍ.([6])

وفیه: أنّه بناءً على هذا الوجه لا معنى للقول بقیام الأمارة مقام القطع الموضوعی الّذی لوحظ فیه القطع بما أنّه أحد أفراد الطرق المعتبرة، بل الأمارة على هذا تكون كالقطع وفی عرضه لا فی طوله، فلا فرق بینهما فی الموضوعیة ولا یقوم أحدهما مقام الآخر، فإنّ القطع لم یؤخذ فی الموضوع إلّا من حیث كونه أحد أفراد المنجّز، فحاله وحال الأمارة واحدٌ.

وكیف كان، فأقرب الوجوه فی توجیه کلام الشیخ+ هو الوجه الأوّل. والله‏ تعالى هو الهادی إلى الصواب والعالم به.

 

([1])  الصفحة 333-334 من المجلّد الأوّل.

([2])  الأنصاری، فرائد الاُصول، ص3 -  4.

([3]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص3 -  4.

([4]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص3-4.

([5]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص18 -  19.

([6]) الحائری الیزدی، درر الفوائد، ص330 - 332.

موضوع: 
نويسنده: