جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

تحریر محلّ النزاع

وقبل الخوض فی الكلام ینبغی تحریر محلّ النزاع، فنقول: یمكن أن یكون محلّ النزاع فی جهتین:

الجهة الاُولى: فی الحكم الشرعی، وفیها یمكن أن یحرّر النزاع فی حكم مطلق الفعل المقطوع وجوبه أو حرمته صادف القطع الواقع أم لم یصادف. ویمكن أن یحرّر فی حكم الفعل المقطوع وجوبه أو حرمته إذا خالف القطع الواقع، كما أفاد المحقّق الخراسانی& فی الحاشیة واستدلّ على عدم كونه محكوماً بحكم بخروجه عن تحت الاختیار،([1]) لأنّ مصادفة القطع الواقع ممّا لا تناله ید الاختیار، وبلزوم اجتماع المثلین لدى القاطع.

الجهة الثانیة: فی الحكم العقلی، وهو استحقاق العقاب على الفعل وقبحه، بعد معلومیة عدم كون الفعل متّصفاً بالقبح مع قطع النظر عن تعلّق القطع به. وفی هذه الجهة أیضاً یمكن البحث فی أنّ الفعل المتجرّئ به هل یكون قبیحاً بملاك العصیان الموجود فی مخالفة القطع الّذی صادف الواقع لیكون المتجرّی أیضاً عاصیاً كما یكون هو عاصیاً أو لا؟

وفی أنّه هل یكون قبیحاً بغیر هذا الملاك؟

وبعبارة اُخرى نقول: لا ریب فی أنّه إذا تعلّق أمر المولى ونهیه بفعلٍ وإن كان فعل ما تعلّق به الأمر بحسب ذاته حسناً وما تعلّق به النهی قبیحاً وإلّا لم یقع الأوّل مورداً لأمر المولى والثانی لنهیه، ولكن بسبب تعلّق الأمر أو النهی به ینطبق علیه فی صورة المخالفة عنوان یكون نفس هذا العنوان قبیحاً وملاكاً لاستحقاق العقاب، وهو

 

خروجه عن رسم العبودیة وعصیانه لأمر المولى ومخالفته له، كما أنّه فی صورة الموافقة ینطبق علیه عنوانٌ یكون نفس هذا العنوان حسناً وملاكاً لاستحقاق الثواب، وهو الانقیاد والأداء لرسوم العبودیة. فعلى هذا، یمكن وقوع النزاع فی وجود هذا الملاك فی الفعل المتجرّئ به وعدمه، ویمكن تحریر النزاع فی أنّ الفعل المتجرّئ به هل یكون قبیحاً بغیر هذا الملاك أو لا؟

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ ما یظهر من بعض کلمات الشیخ+ هو وقوع النزاع واقعاً فی الحكم العقلی، كما فی قوله فی مقام الجواب عن الإجماع: «أمّا الإجماع فالمحصّل منه غیر حاصلٍ، والمسألة عقلیةٌ».([2]) ومن بعضها أنّ النزاع واقعٌ فی الحكم الشـرعی، مثل قوله: «والحاصل: أنّ الكلام فی كون هذا الفعل ـ غیر المنهیّ عنه باعتقاده ـ واقعاً مبغوضاً للمولى» إلى أن قال: «لكن لا یجدی فی كون الفعل محرّماً شرعیّاً»،([3]) هذا.

ولا یخفى: أنّ ما أفاده فی صدر العنوان من أنّ الكلام واقعٌ فی أنّ قطعه فی صورة عدم المصادفة هل یكون حجّة علیه أو لا؟([4])

لیس فی محلّه؛ لأنّ الحجّة ما یكون منجّزاً للحكم فلا یمكن أن یكون موضوعاً للحكم.

وكیف كان، فالّذی ینبغی أن یقال: إنّه لا مجال للنزاع فی الحكم الشـرعی للفعل المقطوع به سواء صادف القطع الواقع أم لا، لعدم وجود دلیلٍ شرعیٍّ علیه أصلاً. وأمّا حكمه الشرعی فی صورة عدم الإصابة، فهو أیضاً مثله، مضافاً إلى الإشكال الّذی ذكره فی الحاشیة من كونه خارجاً عن الاختیار.

وهكذا لا وقع لاحتمال كون النزاع فی الحكم العقلی إذا كان راجعاً إلى استحقاق

 

العقوبة وقبح الفعل بغیر ما هو الملاك فی قبح الفعل واستحقاق العقوبة على المخالفة فی صورة الإصابة.

فالصحیح: أنّ محلّ النزاع لیس إلّا الحكم العقلی الراجع إلى أنّ ملاك القبح واستحقاق العقاب وانطباق عنوان القبیح على الفعل الموجود فی صورة الإصابة هل یكون موجوداً فی صورة عدم الإصابة أو لا؟

وأنت لو تأمّلت فی ذلك لا تجد تفاوتاً بین الفعل المتجرّئ به والمعصیة الحقیقیة فی انطباق عنوان كفران نعمة المولى والظلم علیه والخروج عن رسم العبودیة والطغیان علیه. ولا ینافی ذلك عدم كون الفعل المتجرّئ به بنفسه قبیحاً؛ لأنّ اتّصاف الفعل بالمفسدة الذاتیة غیر اتّصافه بالقبح من جهة تعلّق نهی المولى به وانطباق عنوان المخالفة علیه، وهذا هو الملاك لتحقّق العصیان واستحقاق الذمّ واللوم، ولا فرق فیه بین المتجرّئ به وغیره.

لا یقال: إنّ العقاب ـ كما یستفاد من الآیات والروایات ـ لا یكون إلّا على المعصیة الحقیقیة.

لأنّه یقال: فرق بین فعلیة العقاب واستحقاقه، والآیات والأخبار إنّما هی فی مقام الإیعاد على فعلیة العقاب وهی غیر استحقاق العقاب.

إن قلت: لیس الملاك لاستحقاق العقاب إلّا الإتیان بما هو مبغوضٌ للمولى، وهو لا یتحقّق إلّا فی المعصیة الحقیقیة دون التجرّی.

قلت: إذا كان هذا ملاكه فما هو الملاك فی استحقاق العقاب بالنسبة إلى الأوامر الامتحانیة الصادرة من الموالی العرفیة لأجل امتحان العبید؟ مع أنّ فی صورة مخالفتها لم یأت العبد بما هو مبغوضٌ للمولى قطعاً مع كونه مستحقّاً للعقاب والتوبیخ، هذا.

ثم إنّ الشیخ+ ـ بعدما ذكر الوجوه الّتی قیلت أو یمكن أن تقال لإثبات الحكم

 

العقلی للفعل المتجرّئ به وهو قبحه وكونه موجباً لاستحقاق العقاب؛ وحكمه الشـرعی، وهو حرمته، من الإجماع، وبناء العقلاء على استحقاق العقاب، وحكم العقل بقبح التجرّی؛ وتقریر دلالة العقل ـ أفاد فی مقام الخدشة فی الإجماع بأنّ المحصّل منه غیر حاصلٍ، والمسألة عقلیةٌ، والمنقول منه لیس بحجّةٍ.

وأفاد فی مقام الرّد على بناء العقلاء بأنّه لو سلّم فإنّما هو على مذمّة الشخص من حیث إنّ فعله كاشفٌ عن وجود صفة الشقاوة فیه لا على نفس فعله.([5])

أقول: لا مجال لدعوى الإجماع بعد كونه حجّة لأجل قول الإمام×، أو كشفه عن وجود نصٍّ معتبرٍ فی مثل هذه المسألة الّتی لم یقع البحث عنها عند القدماء.

وأمّا ما أفاد فی مقام الردّ على بناء العقلاء، ففیه: أنّا نمنع كون الفعل كاشفاً عن شقاوة العبد وكونه فی مقام التمرّد والخروج عن رسم العبودیة، بل ربما یكون منشأه طغیان الشهوة وغلبة الهوى، مع عدم كونه فی مقام الطغیان وعدم الاعتناء بشأن المولى، بل مع كمال میله إلى أداء رسم العبودیة كما فی الدعاء: «إلهی لم أعصك حین عصیتك وأنا بربوبیتك جاحدٌ ولا بأمرك مُسْتَخِفٌ ولا لِعقوبتك مُتَعَرِّضٌ ولا لِوَعدك مُتَهاوِنٌ، ولكن خطیئةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لی نفسی وغَلَبنی هَوایَ وأعاننی عَلیها شِقْوَتی وَغَرَّنی سِتْرُكَ الْـمُرْخَى عَلَیَّ»([6])، ولذا لو وبّخه المولى على ذلك لقام مقام الاعتذار والاستغفار، كما ترى فی الخطیئة الصادرة عن آدم× وزوجته÷ لمّا وبّخهما الله‏ تعالى بقوله: ﴿أَلَـمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّیْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبینٌ([7]) فإنّهما قاما مقام

 

الاعتذار و: ﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا([8]) وهذا بخلاف صاحب السریرة الخبیثة والشقاوة ؛ فإنّه فی مقام الطغیان وعدم الاعتناء بشأن المولى یكون حاله كإبلیس فی استكباره ومخالفته لأمره تعالى، ولذا أجاب عن قوله تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾؛ ﴿خَلَقْتَنی مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِینٍ﴾.([9])

هذا، مضافاً إلى أنّه لا فرق فی حركة الأخلاق الرذیلة والصفات المقبّحة الشأنیة من القوّة إلى الفعلیة بین من صادف قطعه الواقع ومن لم یصادف؛ إذ لا تفاوت بین عزم المتجرّی وبین عزم من كان مصیباً فی قطعه، وكذا بین جزمهما وإرادتهما وبین فعلهما من جهة انطباق عنوان التمرّد والطغیان علیه، ما لم تصل شقاوته إلى المرتبة الفعلیة. وبعبارة اُخرى: ما لم تصل فی حركتها إلى منتهاها، كما لو عزم على الفعل ولكن لم یجزم به، أو جزم ولكن منع نفسه عنه ولم یرده، لم یستحقّ العقاب. وأمّا إذا عزم وجزم وأراد بالإرادة الجدّیة ووصلت شقاوته فی حركتها إلى المرتبة الفعلیة، فلا عذر له ویتّصف فعله بالقبح من غیر فرق بین أن یكون مصیباً فی قطعه أم لا؛ وإلّا فلا وجه لاستحقاقه الذمّ واللوم من جهة وجود الصفة الكامنة فیه، مع كونها ذاتیة وخارجة عن تحت الاختیار وإن أمكن علاجه بالاختیار بسبب العمل بالوظائف المقرّرة فی علم الأخلاق والریاضات الشرعیة. ولذا لا یؤاخذ المولى عبده على عدم إقدامه لتعدیل أخلاقه وإزالة الملكات الخبیثة لدیه، بل یؤاخذ ویوبّخه على العمل على وفقها وما صدر منه بها، فتأمّل.

 

([1]) الخراسانی، حاشیة كتاب فرائد الاُصول، ص13.

([2]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص5 .

([3]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص5.

([4]) الأنصاری،  فرائد الاُصول، ص4.

([5]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص5 .

([6]) فقرة من دعاء أبی حمزة الثمالی، انظرها فی المصباح للكفعمی (ص594-595)؛ ومفاتیح الجنان، وغیرهما من كتب الأدعیة.

([7]) الأعراف، 22.

([8]) الأعراف،  23.

([9]) الأعراف، 12.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: