جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

أدلّة الأخباریّین

وما یمكن أن یكون وجهاً لهذا التوهّم الفاسد لیس إلّا أحد الوجوه الخمسة المذكورة فی الكفایة([1]):

أحدها: دعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به.

وهذا الوجه یمكن أن یكون راجعاً إلى ما ذكره المحقّق القمّی+، فإنّ غیر من خوطب به لیس مقصوداً بالإفهام.

ویمكن أن یكون راجعاً إلى:

الوجه الثانی من الوجوه الخمسة المذكورة، وهو: أنّه لأجل احتوائه على مضامین

 

عالیة شامخة غامضة لا تكاد تصل إلیها أیدی اُولی الأفكار والأنظار غیر الراسخین فی العلم، كیف ولا یكاد یصل إلى فهم کلمات الأوائل إلّا الأوحدیّ من الأفاضل، فما ظنّك بكلامه تعالى.

ثالثها: دعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، ولا أقلّ من احتمال شموله لتشابه المتشابه.([2])

رابعها: دعوى أنّه وإن لم یكن منه ذاتاً إلّا أنّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجمالی بطروّ التخصیص والتقیید والتجوّز فی غیر واحد من ظواهره، كما هو الظاهر.([3])

خامسها: دعوى شمول الأخبار الناهیة عن تفسیر القرآن بالرأی لحمل الكلام الظاهر فی معنى على إرادة هذا المعنى.([4])

هذا غایة ما یمكن أن یقال فی توجیه مقالة الأخباریّین.

والجواب عن كون احتواء الكتاب على مضامین عالیة شامخة موجباً لعدم وصول أیدی اُولی الأفكار والأنظار غیر الراسخین فی العلم إلیها، أوّلاً: أنّ الآیات المتضمّنة لتلك المضامین الشامخة إنّما هی غیر آیات الأحكام الظاهرة فی معانیها المتضمّنة لمطالب لیست أجنبیة عن إدراك أحد من ذوی العقول من أهل اللسان، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾؛([5]) وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبیلاً﴾؛([6]) وقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَیْكُمْ اُمَّهَاتُكُمْ؛

 

([7]) وقوله تعالى: ﴿الزَّانِیَةُ وَالزَّانِی فَاجْلِدُوا كُلَّ‏ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةً فِی دِینِ اللهِ‏ِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْیَوْمِ الآخِرِ﴾.([8])

ومثل بعض الآیات الراجعة إلى الوعد والوعید وغیرها.

وثانیاً: قیاس الكتاب المبین ـ الّذی أنزله الله نوراً وتبیاناً وذكرى للمؤمنین الّذین إذا تُلیت علیهم آیاته زادتهم إیماناً ـ بكتب الأوائل قیاس مع الفارق، فإنّ الأوائل إنّما كتبوا ما كتبوا لأجل استفادة أهل الاطّلاع وطلبة العلوم خاصّة على اصطلاحاتهم دون غیرهم، حتى أنّهم لو أرادوا أن یكتبوا ویبیّنوا مطالبهم الغامضة لاستفادة العامّة لما یمكنهم ذلك، وهذا إنّما یكون من ضعف المتکلّم وضیق دائرة علمه وقدرته على بیان مراده. ولكن أین هذا من القرآن المجید فإنّه كتاب الله الّذی أنزله لهدایة عباده عالمهم وجاهلهم أبیضهم وأسودهم، وقد بیّن الله تعالى بقدرته الكاملة المطالب العالیة ـ الّتی لا یمكن أداء حقّ بیانها إلّا بإلقاء الخطابات المفصّلة البلیغة ـ فی آیة مختصـرة بأحسن بیان وأجود تقریر، یستفید منه العالم والجاهل، ویبعث کلّا منهما إلى العمل ویسوقهما إلى طریق الكمال والحركة والتفكیر، ویوقظ النفوس من نوم الغفلة، وتتحرّك به العواطف، وتستعدّ به النفس الإنسانیة لقبول الإفاضات الربانیة.

وتأثیر القرآن فی ذلك إنّما هو من وجوه إعجازه، فإنّه قد بلغ فی ذلك حدّاً لم یمكن أن یبلغ إلیه کلام البـشر. فالقرآن هو السبب لتحویل أخلاق عرب الجاهلیة إلى الأخلاق الكاملة الإنسانیة. كما یجد المتتبّع فی كتب التاریخ أنّه لا یوجد سببٌ لرقیّ العرب ـ فی الجهات الروحانیة والاجتماعیة والسیاسیة وغیرها، ورفضها أشدّ العادات الذمیمة والأخلاق الرذیلة، وتخلّقها بالأخلاق الملكوتیة، وتجنّبها عمّا ینافی شعار

 

التقوى والفقه والأمانة وغیرها ـ إلّا القرآن، فهو القائم بهذه الوظیفة فی زمان قلیل جدّاً. كما أنّ تأثیره فی النفوس فی زماننا هذا أیضاً أكثر من کلّ کلام وبیان، حتى أنّه لا یمكن قیاس الأخبار والأحادیث فی هذه الفوائد بالقرآن المجید حتى الأخبار النبویة| والخطب والكلمات العلویة× مع كونها فی غایة المتانة والبلاغة.

نعم، توجد فی القرآن المجید بعض الآیات الراجعة إلى الاُمور التكوینیة الّتی لیس فهم حقیقتها قریباً من اُفق أذهان جمیع الناس؛ ومصلحة النبوات لا تقتضـی إظهار حقیقتها صراحةً، لعدم اهتداء عقول غالب الناس إلى فهمها إمّا لكونها مخالفةً لما یكون عندهم كالضروریات والاُمور المحسوسة، أو لنقصان استعداداتهم وإدراكاتهم. ومع ذلك کلّه قد اُدّی حقّ البیان فی هذه الآیات أیضاً بقدر ما تقتضیه مصلحة النبوّة.

ویمكن أن یكون المراد من المتشابه هذا النوع من الآیات، ولیس هذا القسم محلّا للابتلاء. هذا، مع أنّ الأخبار أیضاً متضمنةٌ لهذه المطالب العالیة الغامضة.

والحاصل: أنّه لا اعتناء بهذا الكلام، أی كون احتواء القرآن على المضامین الشامخة مانعاً عن حجّیة ظهوراته، لكونه مخالفاً لحكمة إنزال القرآن وكونه معجزاً، ومخالفاً للسیرة القطعیة من المسلمین خلفاً عن سلف، وعمل النبیّ الأكرم| كقراءته الآیات الكریمة على الناس.

وأمّا الجواب عن كون الأخذ بالظاهر تفسیراً بالرأی

فهو: أنّ التفسیر هو كشف القناع ولیس منه حمل الكلام على ظاهره.

نعم، لو كان الكلام یحتمل وجوها وحملناه على بعضها، أو كان ظاهراً فی معنى وحملناه على غیره فهذا من التفسیر بالرأی.

فلا یقال لمن قال بحرمة منكوحة الأب لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ

 

آبَاؤُكُمْ﴾،([9]) أو حرمة نكاح الاُم لقوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَیْكُم اُمَّهَاتُكُمْ﴾،([10]) أو محبوبیة الإحسان إلى الوالدین لقوله تعالى: ﴿وَبِالْوالِدَیْنِ إِحْساناً﴾،([11]) أو وجوب جلد الزانی والزانیة لقوله عزّ اسمه: ﴿الزَّانِیَةُ وَالزَّانِی...([12]) الآیة، أنّه فسّر القرآن.

وبالجملة: فالتفسیر هو القول بغیر العلم ولیس هو الأخذ بظاهر الكلام.

وأمّا الاستدلال بالعلم الإجمالی

ففیه: أنّه لیس لنا علمٌ إجمالیٌ بطروّ التخصیص والتقیید لعمومات الكتاب ومطلقاته، أو وجود قرینة التجوّز مع قطع النظر عن المراجعة إلى كتب الأخبار ممّا بأیدینا فلا مجال لدعوى هذا العلم قبل المراجعة إلیها.

نعم، یمكن دعوى العلم الإجمالی بطروّ التخصیص أو التقیید لبعض عمومات الكتاب أو مطلقاته، ولكنّه بعد المراجعة إلى الأخبار والظفر بموارد التخصیص والتقیید ممّا فی أیدینا ینحل إلى العلم التفصیلی والشكّ البدویّ.

 

وأمّا الاستدلال بشمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر

ففیه: أنّ الظاهر لیس من المتشابه.([13])

وأمّا صیرورة الظاهر من المتشابه عرضاً للعلم الإجمالی بطرو التخصیص والتقیید لظواهر الكتاب.

فلا یوجب رفع الید عن الظواهر وعدم حجّیتها بعد الفحص فی الأخبار والظفر بالمخصّصات والمقیّدات؛ لأنّه ینحلّ به العلم الإجمالی إلى العلم التفصیلی والشكّ البدویّ.

وأمّا الاستدلال ببعض الأخبار الدالّة على أنّ علم القرآن إنّما یكون عند من خوطب به دون غیره ـ الّذی هو السبب العمدة فی ذهاب الأخباریین إلى عدم حجّیة ظواهر الكتاب ـ.

ففیه: أنّه لیس المراد منها عدم حجّیة الظواهر وعدم جواز التمسّك بالكتاب مطلقاً، لمخالفته لسیرة كافة المسلمین والأئمّة^ وأصحابهم، لأنّهم كثیراً ما یستدلّون بظواهر القرآن ویرشدون أصحابهم إلى الرجوع إلیه، وعرض الأحادیث والروایات علیه، كما یظهر ذلك لمن تتبّع كتب الأحادیث.

بل المراد من هذه الأخبار مذمّة الناس من الّذین تركوا أحد أركان الحجج وعمدتها واكتفوا بالكتاب والسنّة دونه ویفتون بالقیاس فیما لیس حكمه مذكوراً فی الكتاب والسنّة من دون أن یرجعوا فی ذلك إلى العترة مع كونهم مأمورین بذلك، ومقتضى حدیث الثقلین([14]) حجّیة قولهم وتوافقهما وعدم افتراقهم عن الكتاب. وهذا غیر مسألة الخلافة والرئاسة، فإنّه مع قطع النظر عن ذلك ـ والقول بأنّ الخلافة والرئاسة العامّة ـ كما زعمه العامّة ـ لیست إلّا من قبیل السلطنة والأمارة وتتحقّق بإجماع الاُمّة واتّفاقهم على تولیة واحد لها، ولیست من المناصب الإلهیة حتى یكون طریق إثباتها منحصراً بالنصّ ـ كما تقوله الفرقة المحقّة الإمامیة ـ یجب القول بحجّیة أقوال أهل البیت^  وفتاویهم وأحكامهم لحدیث الثقلین.

فالأخبار المذكورة إنّما وردت لذمّ هذه الطائفة، لا مَن یتمسّك بأذیال ولایة الأئمّة^ ویهتدی بهداهم ویستضیء بنورهم ویذهب إلى تخصیص عمومات الكتاب وتقیید مطلقاته بالروایات الصادرة عنهم.

ولیس معنى هذه الروایات عدم حجّیة الظواهر مطلقاً حتى بعد المراجعة إلیهم^ وإلى روایاتهم وعدم الظفر بقرینة التجوّز أو المخصّص والمقیّد.

 

والحاصل: أنّ الأخبار كما تنادی به روایة مخاطبة الإمام× مع أبی حنیفة([15]) وقتادة([16]) إنّما وردت فی ذمّ أبی حنیفة وقتادة ومن یحذو حذوهما ممّن یجلس مجلس الفتوى ویفتی من غیر أن یراجع إحدى الحجج وهو قول العترة صلوات الله علیهم، ویستغنی عنهم، ویدّعی الاستقلال فی فهم الكتاب والسنّة، ولا یأخذ بما صدر عن أئمّة أهل البیت^ ممّا یدلّ على تخصیص عمومات الكتاب أو تقیید مطلقاته أو یكون قرینة على التجوّز.

ولا نظر لها إلى من لیس كذلك ممّن یأخذ بفتوى أئمّة أهل البیت^ ویأخذ بما صدر عنهم من الفتاوى والأحكام وما هو مقیّدٌ لإطلاقات الكتاب أو مخصّص لعموماته.

ومن الواضح: أنّ مجرّد طروّ التخصیص أو التقیید لا یصیر سبباً لعدم حجّیة الظواهر، وإلّا فلا فرق فی ذلك بین الكتاب والروایات، فكما أنّه فی الروایات لا یصیر ذلك سبباً لسقوطهما عن الحجّیة كذلك الكتاب لا یسقط عن الحجّیة بمجرّد ذلك.

 

([1]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص59 -  61 .

([2]) قال به السیّد الصدر كما فی فرائد الاُصول (ص38).

([3]) انظر: البحرانی، الدرر النجفیة، ص171.

([4]) انظر: الکرکی العاملی، هدایة الأبرار، ص155؛ الحرّ العاملی، الفوائد الطوسیة، ص191 -  192.

([5]) النساء، 22.

([6]) الإسراء، 32.

([7]) النساء، 23.

([8]) النور، 2.

([9]) النساء، 22.

([10]) النساء، 23.

([11]) الإسراء، 23.

([12]) النور، 2.

([13]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص61 .

([14]) یأتی تخریجه فی الصفحة 124.

([15]) قال أبو عبد الله‏× لأبی حنیفة: «أنت فقیه العراق؟». قال: نعم، قال: «فبم تفتیهم؟». قال: بكتاب الله وسنّة نبیّه|، قال: «یا أبا حنیفة تعرف كتاب الله حقّ معرفته؟ وتعرف الناسخ والمنسوخ؟» قال: نعم، قال: «یا أبا حنیفة لقد ادّعیت علماً، ویلك، ما جعل الله‏ ذلك إلّا عند أهل الكتاب الّذین أنزل علیهم، ویلك! ولا هو إلّا عند الخاصّ من ذریّة نبیّنا محمّد|، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً». الحرّ العاملی،  وسائل الشیعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، ج27، ص47 48، ب 6، ح 27.

([16]) قال أبو جعفر× لقتادة: «أنت فقیه أهل البصرة؟» فقال: هكذا یزعمون، فقال أبو جعفر×: «بلغنی أنّك تفسّر القرآن؟» قال، نعم، إلى أن قال:  «ویحك یا قتادة! إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلكت وأهلكت. ویحك یا قتادة! إنّما یعرف القرآن من خوطب به». الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضی، ج27، ص185، ب 13، ح 25.

موضوع: 
نويسنده: