جمعه: 31/فرو/1403 (الجمعة: 10/شوال/1445)

نقد الاستدلال بآیة النبأ

وقد أوردوا على استفادة المفهوم والاستدلال به بوجوه نذكر بعضاً منها.

أحدها: ما عن بعض المتقدّمین كالشیخ+ فی العدّة([1]) وغیره،([2]) وهو: أنّ الإتیان بالوصف وكلّ قیدٍ زائدٍ إنّما یدلّ على المفهوم ودخل القید فی الحكم إذا لم تكن فی البین قرینة على خلاف ذلك، كأن تكون للقید المأتیّ به فائدة ظاهرة عرفاً غیر دخله فی الحكم، مع أنّها موجودة فی ما نحن فیه وهی عبارة عن: التعلیل المذكور فی ذیل الآیة، فإنّه یدلّ على أنّ ما هو العلّة لوجوب التبیّن لیس إلّا عدم إصابة القوم فی الجهالة والوقوع فی الندامة، وهو مشترك بین خبر العادل والفاسق.

هذا مضافاً إلى إمكان أن یكون ذكر ذلك القید لإظهار فسق الولید؛([3]) فإنّ مورد

 

نزول الآیة كان إخبار الولید بارتداد بنی المصطلق، وذكر الوصف إنّما یكون لأجل التنبیه على فسق هذا الفاسق.([4])

ثانیها: أنّ من المعلوم كون المعلول تابعاً لعلّته فی العموم والخصوص، فالعلّة كما تخصّص مورد المعلول تكون معمّمة له أیضاً، فإنّ التعلیل المذكور فی قولنا مثلاً: «لا تأكل الرّمان لأنّه حامض» كما یخصّص الحكم بالأفراد الحامضة من الرمّان، یكون معمّماً له بالنسبة إلى غیر الرّمان ممّا یكون متّصفاً بالحموضة.

فعلى هذا، لا یصحّ التمسّك بالمفهوم مع وجود التعلیل المذكور فی ذیل الآیة، فإنّ حرمة العمل بقول الفاسق بدون التبیّن قد علّلت بمقتضى هذا التعلیل بكونه معرضاً لإصابة القوم بالجهالة الموجبة لحصول الندامة، وهو مشترك بین خبر العادل والفاسق وإن كانت معرضیة خبر الفاسق لذلك آكد من جهة أنّ احتمال الخلاف فی نبأ الفاسق یكون لأجل احتمال تعمّده الكذب ولأجل خطأه واشتباهه، وفی نبأ العادل لأجل احتمال اشتباهه دون تعمّده، ولو سلّم ذلك فلا مجال لإنكار ضعف احتماله.

واُجیب عن هذا الإشكال بكون النسبة بین المفهوم والتعلیل العموم والخصوص المطلق فیجب أن یحمل العامّ على الخاصّ.

وفیه: أنّ حمل العامّ على الخاصّ إنّما یكون لأجل نصوصیة الخاصّ وظهور العامّ فی مورد الخاصّ فیحمل العامّ على الخاصّ حملاً للظاهر على النص، ولیس ظهور الجملة فی المفهوم أقوى من ظهور العامّ حتى یحمل العامّ علیه. هذا مضافاً إلى أنّ التعلیل المذكور مانع عن انعقاد ظهور الجملة فی المفهوم حتى یقال بتعارضهما وحمل إحداهما على الآخر.

 

وقد یجاب عنه: بأنّ الجهالة المذكورة لیس معناها عدم العلم حتى یكون مشتركاً بین العمل بخبر العادل والفاسق، بل المراد منها هو السفاهة وفعل ما لا ینبغی صدوره عن العقلاء، وهذا غیر موجود فی العمل بخبر العادل.([5])

وفیه أوّلاً: أنّ هذا خلاف الظاهر من لفظ الجهالة.

وثانیاً: لو سلّمنا احتمال هذا اللفظ لهذا المعنى یصیر التعلیل مجملاً، ومعه لا یمكن التمسّك بالمفهوم لوجود ما یصلح للقرینیة على إرادة الخلاف. ولا یرفع هذا الإشكال وجود القدر المتیقّن؛ لأنّ إجمال التعلیل مانعٌ عن انعقاد ظهورٍ للمعلّل.

وربما یجاب عن هذا الإشكال بأنّ وزان ذیل الآیة ووزان سائر الآیات الناهیة عن العمل بغیر العلم واتّباع الظنّ واحدٌ، ولكن یخصّص هذا العموم بظهور الجملة فی المفهوم.([6])

وقد اُجیب أیضاً عن الإشكال المذكور بأنّ العلّة الموجبة لوجوب التبین وإن كانت إصابة القوم بجهالة ومعرضیة خبر الفاسق لإصابة القوم بها، ولكن لیست هذه بنفسها علة لوجوب التبین بل بملاك حصول الندامة على الأخذ بقول الفاسق والعمل على طبقه، والظاهر أنّ الندامة المذكورة هی الندامة الاُخرویة الحاصلة من رؤیة العذاب وحین المحاسبة، كما قال الله‏ تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَـمَّا رَأَوُا العَذَابَ([7]) لا الندامة الدنیویة، وحیث إنّ ملاك الندامة الاُخرویة غیر معلوم لنا ولا یعلم إلّا من قبل الشارع یصیر التعلیل مجملاً ولا یمكن استفادة عمومه لخبر غیر الفاسق، فلا مانع من استفادة

 

المفهوم لانعقاد ظهوره، فالتعلیل یكون شبیهاً بالإیعادات المذكورة فی بعض الآیات بعد بیان الأحكام لیكون مؤكّداً فی البعث والزجر.

وفیه أوّلاً: أنّا لا نسلّم أن یكون المراد بالندامة الندامة الاُخرویة، بل المراد بها الندامة الدنیویة.

وثانیاً: أنّه وإن كانت سببیة الأفعال للعذاب والعقاب وحصول الندامة فی الآخرة على الأعمال لا تعلم إلّا من قبل الشارع وبیانه، إلّا أنّه قد بیّن فی الآیة الشـریفة كون إصابة القوم بجهالة علّة لحصول الندامة وهی مشتركة بین خبر العادل والفاسق، كما لا یخفى.

وقد أجاب بعضٌ من أعاظم المعاصرین عن التعارض المذكور بین التعلیل وظهور الجملة فی المفهوم بحكومة المفهوم على التعلیل؛ لأنّ المفهوم یدلّ على إلغاء احتمال مخالفة خبر العادل للواقع وكون الأخذ به أخذاً بالعلم تشـریعاً وجعله محرزاً للواقع وكاشفاً عنه، فلا یشمله عموم التعلیل، لا لأجل تخصیصه بالمفهوم بل لحكومة المفهوم علیه وكونه كالمفسّر له. فأقصى ما یقتضیه العموم هو عدم جواز العمل بما وراء العلم، والمفهوم یقتضی أن یكون خبر العدل علماً فی عالم التشریع وموجباً لتضییق موضوع عموم التعلیل وإخراج خبر العادل عنه موضوعاً بجعله محرزاً للواقع وحجةً، فلا تعارض بینهما، لأنّ المحكوم لا یعارض الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى منه.([8])

وفیه أوّلاً: أنّ اتّصال التعلیل بصدر الآیة مانعٌ عن ظهوره فی المفهوم، ودلیل على أنّ الإتیان بالقید الزائد إنّما یكون لأجل إفادة نكتةٍ اُخرى.

وثانیاً: سلّمنا أنّه مقیّدٌ للمفهوم وأنّ خبر العادل لا یجب فیه التبیّن، ولكن لیس للمفهوم لسانٌ حتى یقال بكونه كالمفسّر لدلیلٍ آخر وناظراً إلیه وحاكماً علیه، هذا.

 

ویمكن أن یقال: إنّ الإتیان فی الكلام بقیدٍ زائدٍ یدلّ على دخله فی الحكم مع ذكر التعلیل الشامل لهذا القید وغیره لا یكون عند العرف خالیاً عن التهافت والمناقضة، فلو كان الكلام صادراً من المتکلّم الحكیم یوجّهونه على نحو یصیر خارجاً عن التهافت واللغویة. وفی المقام یمكن أن یقال بأنّ العرف حیث یرى أنّ احتمال كون خبر الفاسق على خلاف الواقع ینشأ من تعمّده الكذب وإلقاء الغیر فی خلاف الواقع ومن احتمال النسیان والخطأ، وأمّا فی خبر العادل فلا ینشأ إلّا من احتمال نسیانه وخطأه، وأمّا احتمال تعمّد الكذب فهو بالنسبة إلیه بعیدٌ للغایة ولا یعتنى به، یحكم بأنّ مناسبة التعلیل لوجوب التبیّن فی خبر الفاسق دون العادل هی وجود احتمال تعمّد الكذب فی خبر الفاسق دون العادل وعدم الاعتناء باحتمال الخطأ والنسیان فكأنّهم یفرضون الخبر ـ الّذی لا یتطرّق إلیه احتمال كونه على خلاف الواقع وإصابة القوم بجهالة إلّا من جهة احتمال النسیان والخطأ ـ كالعلم فی عدم تطرّق احتمال الخلاف إلیه، وعدم كون العمل به إصابة القوم بجهالة، ولا یعتنون بالاحتمال المذكور فی مقام العمل، ولهذا اُتی بالقید فی الآیة تنبیهاً على الفرق الموجود بین الفاسق والعادل الّذی هو الموجب لحرمة العمل بخبر الفاسق قبل التبیّن وجوازه فی خبر العادل.

ثالثها: ما لا یختصّ بمفهوم آیة النبأ بل اُورد على مطلق ما استدلّ به على حجّیة الخبر وهو: أنّ الآیة وغیرها إنّما تقتضی حجّیة الخبر إذا كان بلا واسطة، وأمّا الأخبار مع الواسطة فلیست مشمولةً لها لانصـراف النبأ عن الخبر مع الواسطة، ولیست الروایات والأخبار المرویّة عن الأئمّة^ إلّا كذلك، فلا تشملها أدلّة حجّیة الخبر.([9])

وفیه: أنّ إخبار الشیخ& عن خبر المفید وإخبار المفید عن خبر الصدوق وإخبار

 

الصدوق عن خبر الكلینی وكذا الكلینی إلى أن ینتهی إلى الإمام×، کلّها أخبار بلا واسطةٍ، فإنّ الشیخ أخبر عن المفید بلا واسطةٍ وهو أخبر عن خبر الصدوق بلا  واسطةٍ والصدوق أخبر عن الكلینی بلا واسطةٍ وكذا الكلینی إلى أن ینتهی إلى الإمام×، فلیس فی البین خبرٌ مع الواسطة حتى یقال بانصـراف النبأ عنه، بل کلّ واحدٍ خبرٌ بلا واسطةٍ. وكأنّه توهّم هذا المستشكل أنّ أدلّة حجّیة الخبر إنّما تشمل نفس الخبر المرویّ عن الإمام× فتنصرف إلى الخبر بلا واسطةٍ فلا تشمل الروایات المأثورة عنهم بوسائط أو واسطتین.

إن قلت: نعم، ولكن شمول دلیل الحجّیة لخبر الصدوق الّذی أخبر به الشیخ متوقّف على كونه محرزاً بالوجدان مع أنّه لیس محرزاً بالوجدان. نعم، إخبار الشیخ+ عن الصدوق محرز بالوجدان وأمّا خبر الصدوق وسائر الوسائط فلیست محرزةً كذلك بل إنّما یراد إحرازها بالتعبّد وبسبب دلیل الحجّیة. ولو قلنا بكفایة إحرازها بالتعبّد وبسبب دلیل الحجّیة فی ترتّب الحكم علیه یلزم أن یكون الحكم مثبتاً لموضوعه، وهو محال.

وبالجملة: لا یكاد أن یشمل الحكم فرداً تتوقّف فردیّته على نفس الحكم ویكون ثبوته فی مورد فردٍ آخر.

فلو قلنا بأنّ الحكم بتصدیق العادل یجعل خبر الصدوق الّذی أخبر به الشیخ محرزاً تعبّداً، وقلنا بشمول هذا الحكم، أی الحكم بتصدیق خبر العادل، لذلك أی خبر الصدوق ـ الّذی اُحرز بنفس الحكم بتصدیق خبر العادل ـ یلزم أن یكون الحكم مثبتاً لموضوعه، لتوقّف فردیة خبر الصدوق على فردیّة خبر الشیخ.

قلت: نعم، وإن كان لا یجوز أن یكون الحكم مثبتاً لموضوعه، إلّا أنّ لنا أن نقول بأنّ الحكم بوجوب تصدیق خبر الشیخ ـ الّذی یكون محرزاً لخبر الصدوق تعبّداً ـ لیس نفس الحكم بوجوب تصدیق خبر الصدوق بل هو غیره، والحكم الّذی یمتنع أن

 

یكون مثبتاً لموضوعه هو نفس حكم ذلك الموضوع، ولكن لا مانع من إثبات موضوع بسبب حكم موضوع آخر، وبعد ثبوته یترتّب علیه حكمه كما فیما نحن فیه؛ فإنّ بسبب الحكم بوجوب تصدیق خبر الشیخ اُحرز خبر الصدوق، وهو موضوعٌ لوجوب تصدیقه الّذی یكون وجوبه غیر وجوب تصدیق خبر الشیخ.

هذا مضافاً إلى أنّ خبریة خبر الصدوق بوجوده الخارجی وفردیّته للحكم بوجوب التصدیق كذلك لا تكون متوقّفةً على الحكم وثبوته فی مورد فرد آخر، بل إنّما تكون خبریّته بوجوده العلمی متوقّفةً على ثبوت الحكم لبعض الأفراد، وهذا لا مانع منه.([10])

إن قلت: نعم، ولكن التعبّد بالخبر وبكلّ أمارة إنّما یصحّ إذا كان للموضوع ـ الّذی قامت علیه الأمارة ـ بنفسه أثرٌ حتى یترتّب علیه ذلك الأثر بسبب التعبّد، وإلّا فلو لم یكن له أثرٌ لما صح جعله طریقا والتعبّد به، فالتعبّد بخبر العدل القائم على عدالة أحدٍ ووجوب تصدیقه یجوز لأجل ما یترتّب على عدالته من الآثار من جواز الصلاة خلفه والطلاق عنده ووجوب قبول شهادته ونحو ذلك.

فعلى هذا، لابدّ من أن یكون ترتّب الأثر على الموضوع مفروغاً منه حتى یصحّ التعبّد بالأمارة القائمة على ذلك الموضوع، فبناءً على ذلك لا مانع من التعبّد بخبر زرارة عن الإمام× بوجوب شیءٍ أو حرمته لما یترتّب علیه من وجوب هذا الشـیء أو حرمته. وأمّا إذا كان الخبر خبراً مع الواسطة كخبر المفید عن الصدوق الّذی أخبر به الشیخ فلا یترتّب علیه أثرٌ شرعیٌ حتى یجوز التعبّد بخبر الشیخ الّذی أخبر عنه، ولا یجوز الحكم بوجوب تصدیقه.

ولا یكفی فی ترتّب الأثر الشرعی على خبر الصدوق نفس هذا الحكم بوجوب

 

التصدیق، لأنّ هذا الأثر لم یكن ثابتاً له قبل دلیل الحجّیة، بل لم یجئ إلّا من قبل دلیل الحجّیة، فیتوقّف الحكم بوجوب تصدیق خبر الشیخ على كون خبر الصدوق ـ الّذی أخبر به الشیخ ـ محكوماً بوجوب التصدیق، وكونه محكوماً بوجوب التصدیق متوقّف على هذا الحكم.

قلت: نعم، هذا إنّما یتمّ إذا كان الحكم بوجوب التصدیق بلحاظ الأفراد وأشخاص الآثار، ولكن لنا أن نقول: إنّ الحكم إنّما یكون بلحاظ طبیعة الأثر وكون القضیة طبیعیة، دون لحاظ خصوصیات الآثار، فیسری الحكم على هذا إلى نفس هذا الحكم ضرورة سرایة الطبیعة إلى جمیع أفرادها.([11])

إن قلت: سلّمنا ذلك، ولكن الحكم بوجوب تصدیق خبر الشیخ متوقّفٌ على الحكم بوجوب تصدیق خبر الصدوق مثلاً، وهو متوقّفٌ على كونه محرزاً بالتعبّد، وكونه كذلك متوقّفٌ على الحكم بوجوب تصدیق خبر الشیخ، وهذا دور.

قلت: كما أنّ فی قیام الطریق على الحكم الواقعی أو موضوعه تكون مرتبة الحكم الواقعی متقدّمة على الأمارة، والحكم الظاهری واقعاً فی طول الحكم الواقعی ولا یتوقّف وجود الحكم الواقعی على الحكم الظاهری، لأنّه موجود إمّا على نحو الشأنیة أو الفعلیة؛ كذلك إذا قام الطریق على الطریق والحكم الظاهری على الحكم الظاهری یكون الحكم الظاهری الّذی قام علیه الطریق بحسب الرتبة متقدّماً على طریقه، مثلاً: إذا أخبر زرارة عن الإمام× بشیءٍ یكون ما أخبر به من الحكم الواقعی كوجوب هذا الشیء أو حرمته متقدّماً على إخبار زرارة ویكون إخبار زرارة الّذی هو الطریق للحكم الواقعی متقدّماً على الطریق القائم علیه وهو إخبار حریزٍ عن زرارة، وإخباره

 

عن زرارة أیضا متقدّماً على الطریق القائم علیه وهو إخبار حمّاد، وهو أیضاً یكون متقدّماً على إخبار أحمد بن محمد عنه، وهو أیضاً متقدّم على خبر محمد بن یحیى عنه، وهو متقدّم على خبر الكلینی عنه. فعلى هذا، وإن كان الحكم بوجوب تصدیق الكلینی مثلاً وشمول «صدّق العادل» له متوقّفاً على الحكم بوجوب تصدیق خبر محمد بن یحیى لكنّه لیس متوقّفاً على وجوب تصدیق خبر الكلینی، لكونه موجوداً بنحو الشأنیة أو الفعلیة مع قطع النظر عن قیام خبر الكلینی علیه.

فإن قلت: إنّ هذا یتمّ لو لم یكن شمول الحكم لخبر الكلینی ومحمد بن یحیى وأحمد بن محمد وجمیع الوسائط فی عرضٍ واحدٍ، أمّا مع كون شموله لجمیع أخبار الوسائط على حدٍّ سواءٍ وعدم وجود ترتّبٍ وطولیةٍ بینها فلا یكفی ما قلت فی الجواب. وبعبارة اُخرى: لا یمكن إنشاء الحكم بلحاظ الأفراد الطولیة؛ لأنّ هذه الأفراد إنّما تتولّد بعد شمول الحكم لها، دون الأفراد العرضیة لإمكان لحاظها فی مقام جعل الحكم.

قلت: هذا إذا لم تكن القضیّة المنشأة للحكم من القضایا المحصورة الحقیقیة، فإنّها لو كانت كذلك فلا مانع من شمول الحكم لجمیع الأفراد العرضیة والطولیة.([12])

ولا یخفى علیك: أنّه لا یلزم فی جعل وجوب التصدیق وترتیب الأثر على خبر العادل كونه ذا أثرٍ شرعیٍّ عملی، بل یكفی فی ذلك انتهاؤه إلى الأثر الشـرعی العملی فهذا یكفی مصحّحاً لجعل الحكم. هذا تمام الجواب عن هذا الإشكال.

وأمّا ما جاء فی بعض کلمات الأكابر فی مقام الجواب عن هذا الإیراد بأنّه یكفی فی دفع الإشكال كون کلّ واحد من الوسائط جزء الموضوع لدخله فی ثبوت قول الإمام، فیشمله الحكم بوجوب التصدیق لأجل هذا الأثر.([13])

 

ففیه: أنّ هذا إنّما یتمّ إذا قامت الأمارات المتعدّدة على أجزاء موضوع حكمٍ واحدٍ، مثل: قیام خبرٍ على إخبار زید بكذا، وقیام خبرٍ آخر على عدالته، فیشمل کلّاً منهما دلیلُ التعبّد بالخبر لإثبات ما هو الموضوع للحكم الشرعی بسببهما، وهو خبر العادل. وما نحن فیه لیس من هذا القبیل؛ لأنّ خبر کلّ واحدٍ من الكلینی ومحمد بن یحیى وأحمد بن محمد وحماد وزرارة یكون خبراً مستقلًّا وموضوعاً خاصّاً لوجوب تصدیق خبر العادل.

رابعها: وهو ممّا اُورد على الاستدلال بخصوص آیة النبأ: أنّ الالتزام بصحّة هذا الاستدلال یستلزم خروج المورد عن عموم المفهوم مع أنّ العامّ نصٌ فی مورده، وإخراج مورده وتخصیصه به مستهجنٌ قبیحٌ؛ وذلك لأنّ مورد نزول الآیة الشـریفة هو الإخبار بالارتداد وهو كغیره من الموضوعات الخارجیة لا یثبت إلّا بالبینة وخبر العدلین لا عدلٌ واحدٌ، سیّما فی مثل المورد الّذی یكون من الاُمور المهمّة فی نظر الشرع، فلابدّ من تخصیص عموم المفهوم على نحو ینطبق مع المورد، ومع تخصیصه یسقط الاستدلال به لحجّیة خبر الواحد.

وقد أجاب الشیخ+ عن هذا الإشكال كما یستفاد من رسائله أوّلاً: بعدم كون المورد داخلاً فی المفهوم بل هو داخلٌ فی المنطوق، فإنّ المورد هو إخبار الولید الفاسق بارتداد بنی المصطلق، والآیة تدلّ بمنطوقها على وجوب الفحص والتبیّن فی خبر الفاسق سواءٌ كان فی الموضوعات الخارجیة أو الأحكام، ولا ربط لذلك بمسألة عدم إثبات الموضوعات الخارجیة إلّا بالبینة، ولا یكون هذا إخراجاً لمورد الآیة عن عموم المنطوق.

وثانیاً: لو أغمضنا عن هذا، وقلنا بأنّ أصل الإخبار عن الارتداد یكون مورداً للحكم بوجوب التبیّن إذا كان الجائی به فاسقاً وعدم وجوب التبیّن إذا كان عادلاً، نمنع كون ذلك تخصیصاً ومن إخراج المورد المستهجن، بل غایة الأمر كونه تقییداً

 

للحكم فی طرف المفهوم، وكون حجّیة خبر العدل الواحد مقیّداً بقیام خبر عدل آخر على طبقه أیضاً.([14])

ولا یخفى علیك: ما فی جوابه الأوّل؛ فإنّ المفهوم لیس حاله حال غیره من الأدلّة الابتدائیة مثل عموم المنطوق فی الآیة الشـریفة، بل هو ما یستفاد من الخصوصیة الموجودة فی المنطوق وهی إتیان المتکلّم بقید زائدٍ فی المنطوق، ولیس له استقلالیةٌ ونفسیةٌ كالمنطوق، بل هو تابعٌ للمنطوق ومن لوازمه وخواصه، فیكون تابعاً للمنطوق فی الإطلاق والاشتراط والتعمیم والتخصیص والسعة والضیق.

وأمّا جوابه الثانی ففیه: أنّ البیّنة القائمة على الموضوعات حجّة واحدةٌ ولیس کلّ واحدٍ من الخبرین حجّة بشرط ضمّ الآخر به، كما لا یخفى.

 

([1]) الطوسی، العدّة فی اُصول الفقه، ج1، ص111.

([2]) الشریف المرتضی، الذریعة إلى اُصول الشریعة، ج2، ص535 -  536 .

([3]) هو الولید بن عقبة بن أبی معیط الاُموی، اُمّه أروى بنت كریز بن ربیعة اُمّ عثمان بن عفّان، ولّاه عثمان الكوفة، وعزله بسعید بن العاص، توفّی بالرقّة ودفن بالتلیح. انظر: ابن الأثیر الجزری، اُسد الغابة، ج5، ص90-92.

وبنو المصطلق: هم فخذ من قبیلة خزرج العربیة الشهیرة.

([4]) قال ابن حجر: «لا خلاف بین أهل العلم بالتأویل أنّ قوله عزّ وجلّ: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ... نزلت فی الولید». ابن حجر العسقلانی، تهذیب التهذیب، ج11، ص125. راجع أیضاً: البصری، المعتمد فی اُصول الفقه، ج2، ص117؛ الطبری، تفسیر، ج26، ص78 ـ 79؛ ابن حجر العسقلانی، الإصابة، ج6، ص321.

([5]) راجع: الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص86 ؛ الخراسانی، فوائد الاُصول، ج3، ص172.

([6]) لا یخفى علیك ما فی هذا الجواب أیضاً ممّا أورده السیّد الاُستاذ دام ظلّه وعلاه على الجواب الأوّل، فإنّ هذا الجواب أیضاً راجع إلیه، فالجواب الجواب والإیراد علیه الإیراد. ولیس حاضراً فی ذهنی خصوص ما أورده على هذا الجواب. [منه دام ظلّه العالی] .

([7]) سبأ، 33.

([8]) النائینی، فوائد الاُصول، ج3، ص172 - 173.

([9]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص82 .

([10]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص75 - 76.

([11]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص89 .

([12]) راجع أیضاً: العراقی، نهایة الأفكار، القسم الأوّل من الجزء الثالث، ص123 - 124.

([13]) النائینی، فوائد الاُصول، ج3، ص178.

([14]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص76 -  77.

موضوع: 
نويسنده: