پنجشنبه: 30/فرو/1403 (الخميس: 9/شوال/1445)

الإجماع المنقول

وأمّا الكلام فی الإجماع المنقول، فقد ذكر الشیخ+ لمنع حجّیته مقدّمتین:

إحداهما: أنّ أدلّة حجّیة خبر العادل لا تدلّ على أزید من إلغاء احتمال تعمّد الكذب فی خبر العادل، وجعله بالنسبة إلیه كالعدم بخلاف الفاسق. وأمّا احتمال

 

الخطأ والاشتباه فلا فرق فی تطرّقه بین خبر العادل والفاسق، ولا دلالة للأدلّة المذكورة على نفیه.

نعم، لا اعتناء بهذا الاحتمال من جهة الأصل ـ وهو بناء العقلاء على عدم الاعتناء بذلك الاحتمال ـ إذا كان المخبَر به أمراً حسیّاً، أو كان من الاُمور الحدسیة الّتی تكون مبادیها اُموراً حسّیة كالإخبار عن شجاعة زید وسخاوة عمرو، فإنّ شجاعة زید مثلاً تعرف بسبب بعض الاُمور الحسیة مثل مواقفه ومقاماته فی الحروب ومبارزته الأبطال والشجعان، ففی مثل هذا لا یعتنی العقلاء باحتمال الخطأ. وأمّا إذا كان المخبر به أمراً حدسیّاً من دون أن تكون مبادیه من الاُمور الحسیّة بل كان استنباطاً واجتهاداً، فلیس لرفع الید وعدم الاعتناء بهذا الاحتمال أصلٌ وبناءٌ من العقلاء.

ثانیتهما: أنّ الإجماع فی مصطلح الخاصّة بل العامّة ـ الّذین هم الأصل له ویدّعون أنّه الأصل لهم([1]) ـ هو: اتّفاق جمیع أهل العصر، أو اتّفاق أهل الحلّ والعقد، أو اتّفاق جمیع العلماء فی عصرٍ واحدٍ على أمرٍ([2]). إلّا أنّه حجّة عند العامّة بنفسه بحیث یكون قول کلّ واحدٍ من المجمعین جزءاً من الحجّة([3]). وعند الإمامیة حجّة لكونه مشتملاً على قول المعصوم، وفی الحقیقة الحجّة عندهم قول الإمام لا أقوال غیره من المجمعین.

والمدّعی للإجماع إن كان ینقل قول الإمام وقول غیره من العلماء، بحیث یكون

 

طریقه لاستكشاف قول الإمام أقوال غیره من العلماء، یكون مستنده لاعتبار هذا الإجماع ـ من حیث نقل المنكشف والمسبّب وهو قول الإمام وعلم حاكیه بقوله ـ إمّا قاعدة اللطف، أو التقریر وإن كان ذلك أیضاً راجعاً إلى قاعدة اللطف، أو الملازمة العادیة بین قول المجمعین وبین قول الإمام لقضاء العادة باستحالة توافقهم على الخطأ مع كمال بذل الجهد والوسع فی فهم الحكم الصادر عن الإمام، واستحالة توافق المرؤوسین عادةً على رأی یكون مخالفاً لرأی رئیسهم، أو الملازمة الاتّفاقیة.

وإن كان ناقلاً لقول الإمام وقول غیره لكن لا على النحو المذكور من الطولیة وكون العلم بقول الإمام مترتّباً على العلم بأقوال غیره من العلماء، بل على نحو من العرضیة بأن یحصل قول الإمام من طریق الحسّ باستماع قوله فی ضمن استماعه أقوال جماعة لا یعرفهم بأعیانهم، فیحصل له القطع بقول المعصوم. فدلالة الإجماع على قوله× تكون بالتضمّن. وهذا القسم من الإجماع فی غایة القلّة لو لم نقل بعدم وقوعه واتّفاقه جزماً.

وأنت خبیرٌ بعدم كفایة واحدٍ من هذه الوجوه لإثبات حجّیة نقل الإجماع من حیث المنكشف والمسبّب.

أمّا إذا كان اعتباره عند ناقله من جهة الحسّ واشتماله على قول الإمام للعلم بدخوله فی المجمعین لاستماع الحكم من جماعةٍ كان الإمام فیهم وإن كان لا یعرفه بعینه، فهو ممّا لا یتّفق إلّا نادراً، بل یمكن دعوى عدم اتّفاقه جزماً.

وأمّا اشتماله على قول الإمام من جهة قاعدة اللطف أو التقریر، فهی مردودة عند المحقّقین من المتأخّرین.

وأمّا اشتماله على قوله× بدعوى وجود الملازمة بین تطابق رأی الفقهاء ورأی الإمام، فهو یبتنی على الحدس الّذی قد یتّفق لنا وقد لا یتّفق. هذا ملخّص ما أفاده

 

الشیخ+ فی نفی حجّیة الإجماع المنقول من حیث المنكشف([4]). وأمّا من حیث الكاشف فسیجیء الكلام فیه إن شاء الله.

ولا یخفى علیك: أنّ المتراءى من کلامه+ أنّه توهّم حصـر بحثهم عن حجّیة الإجماع المنقول بالإجماعات المنقولة المتحقّقة فی زمان الغیبة، وأنّ الإمام الّذی یكون قوله مستنداً لحجّیة الإجماع هو إمام العصر ـ أرواحنا فداه ـ دون غیره، ولذا فی بیان إمكان كون مستند علم الحاكی بقول الإمام هو الحسّ مثَّل بما إذا سمع الحكم من الإمام فی جملة جماعة لا یعرف أعیانهم، فیحصل له العلم بقول الإمام. مع أنّه لا فرق فیما هو مستند الإجماع بین زمان الغیبة وغیره من الأعصار السابقة وأزمنة الحضور. ولیس فی کلمات القدماء حصر العلم بدخول الإمام باستماع ناقل الإجماع قوله× فی ضمن جماعة لا یعرفهم بأعیانهم، بل كما یمكن أن یكون هذا وجه علم الحاكی بقول الإمام یمكن أن یكون وجه علمه دلالة الروایات المأثورة عنهم. وإنّما ادّعوا الإجماع لأجل كون كتبهم فی معرض ملاحظة علماء العامّة وفقهائهم فرأوا أنّ التمسّك بالروایات والأخبار المرویّة عن أهل البیت^ فی كلّ مسألة یوجب تجدید النزاع الواقع بینهم فی الخلافة والإمامة فی کلّ بابٍ من الفقه، فادّعوا الإجماع تخلّصاً من تجدید هذا النزاع فی الفقه واكتفاءً بما ذكروه فی غیر الكتب الفقهیة من الكتب الكلامیة والاُصولیة، لوجود ما هو الملاك فی حجّیة الإجماع عندنا وهو قول الإمام. ومع ذلك یشیرون إلى ذلك، أی أنّ المراد من هذا الإجماع لیس اتّفاق جمیع الاُمّة أو جمیع الفقهاء، كما أشار إلیه ابن زهرة فی الغنیة فی مقام الاستدلال للمسألة بقوله: «الإجماع المتكرّر ذكره» وغیره بقوله: «الإجماع المشار إلیه».

 

وغرضهم هو الإجماع المشار إلیه فی صدر الكتاب وهو قول الإمام. ولذا ترى أنّهم فی مثل مسألة العول والتعصیب([5]) وحرمان الزوجة مع وجود الروایات المتواترة یتمسّكون بالإجماع، مع أنّ من الواضح عدم كون مراد ناقله أنّه تشرّف بحضور الإمام فی ضمن ملاقاته جماعة لم یعرفهم بأعیانهم، بل المراد حصول العلم برأی الإمام لهذه الروایات المتواترة القطعیة، هذا.

ویشهد على ما ذكرناه ما یجده المتدبّر فی کلمات الشیخ+، فإنّه بعد ما ذكر فی العدّة عدم كون ملاك حجّیة الإجماع عندنا ما هو ملاكٌ لحجّیته عند العامّة، وتعرّض لما تمسّك به العامّة لإثبات مذهبهم وأبطل ما ذهبوا إلیه وأجاب عن استدلالاتهم، قال: «فصلٌ: فی كیفیة العلم بالإجماع ومَن یُعتَبر قوله فیه».

إذا كان المعتبر فی باب كونهم حجّة قول الإمام المعصوم×، فالطریق إلى معرفة قوله شیئان:

أحدهما: السماع منه، والمشاهدة لقوله.

والثانی: النقلُ عنه بما یوجب العلم، فیعلم بذلك أیضاً قوله.

هذا إذا تعیّن لنا قول الإمام×، فإذا لم یتعیّن لنا قول الإمام ولا یُنقل عنه نقلاً یوجب العلم، ویكون قوله فی جملة أقوال الاُمّة غیر متمیّزٍ منها، فإنّه یحتاج أن ینظر... إلخ».([6])

ولیس فی کلامه ما یستفاد منه انحصار طریق العلم بقول الإمام لناقل الإجماع بالاُمور الّتی ذكرها الشیخ الأنصاری+، كما ینادی بأعلى صوته استدلاله فی الخلاف

 

بالإجماع، فإنّ مراده لیس إلّا قول الإمام المستكشف عن النصّ القطعی الّذی یستكشف منه قول غیره من فقهائنا.

ولا وجه لأن یقال بأنّ مراده ـ فی کلّ مسألةٍ من هذه المسائل ـ من دعوى الإجماع نقل قول الإمام وغیره على أحد النحوین المذكورین.

ألا ترى أنّه قال فی الخلاف (فی مسألة العدول من الفرادى إلى الجماعة، وفی مسألة صلاة ذات الرقاع) بالجواز للأصل، (وفی  صلاة الجماعة أیضاً) قال بجوازه للأصل، وقال فی محلٍّ آخر من صلاة الجماعة:

(مسألة، فیها ثلاث مسائل:

أوّلها: من صلّى بقومٍ بعض الصلاة ثم سبقه الحدث فاستخلف إماماً فأتمّ الصلاة جاز ذلك، وبه قال الشافعی فی الجدید.([7])

وكذلك إن صلّى بقومٍ وهو محدثٌ أو جنبٌ ولا یعلم حال نفسه ولا یعلمه المأموم ثم علم فی أثناء الصلاة حال نفسه، خرج واغتسل واستأنف الصلاة. وقال الشافعی إذا عاد أتمّ الصلاة، فانعقدت الصلاة فی الابتداء جماعة بغیر إمام ثم صارت جماعة بإمام.

الثانیة: نقل نیّة الجماعة إلى الانفراد قبل أن یتمّ المأموم یجوز ذلك، وتنتقل الصلاة من حال الجماعة إلى حال الانفراد، وبه قال الشافعی.([8]) وقال أبو حنیفة: تبطل صلاته.([9])

الثالثة: أن ینقل صلاة الانفراد إلى صلاة جماعةٍ، فعندنا أنّه یجوز ذلك، وللشافعی

 

فیه قولان أحدهما: لا یجوز، وبه قال أبو حنیفة وأصحابه.([10]) والثانی: یجوز، وهو الأصحّ عندهم، وهو اختیار المزنی مثل ما قلناه).

دلیلنا: إجماع الفرقة وأخبارهم، وقد ذكرناها فی الكتاب الكبیر، ولأنّه لا مانع یمنع منه، فمن ادّعى المنع فعلیه الدلالة.([11]) انتهى.([12])

وقد تتبّعنا بالتتّبع التامّ كتابیه الكبیرین التهذیب والاستبصار فلم نجد فیهما روایةً یمكن أن تكون مدركاً لهذه المسائل إلّا روایات الاستخلاف وهی لا تدل إلّا على المسألة الاُولى، ولا دلالة لها على ما ذكره فی الفرع الثانی والثالث؛([13]) إلّا أنّه استفاد حكم المسألة الثالثة وهو العدول من الانفراد إلى الجماعة من هذه الأخبار من جهة أنّ

 

صلاة المؤتمین بعد صیرورتها فرادى بسبب عروض عارضٍ للإمام تصیر جماعةً لصحة ائتمامهم فیما بقی من الصلاة بمن استخلفه الإمام السابق أو استخلفوه بمقتضـى هذه الروایات. واستفاد حكم الفرع الثانی وهو جواز العدول من الجماعة إلى الفرادى من صیرورة صلاة ‏المؤتمّین بالإمام الّذی حدث له حادث فرادى بعد حدوث الحادث.

والحاصل: أنّ الشیخ& فی هذه المسائل تمسّك بالإجماع مع وضوح عدم وجود مستندٍ له لقول الإمام إلّا الأخبار، وما جعله مدركاً لحكم هذه المسائل، ومبنی دعوى الإجماع لیس إلّا أخبار الاستخلاف.

فظهر من جمیع ما ذكر أنّ اشتمال الإجماع على قول الإمام وكونه معتبراً من حیث المنكشف لیس منحصراً فی استماع قول الإمام فی ضمن استماع أقوال جماعة لا یعرفهم بأعیانهم، ولا غیر هذا الوجه ممّا قیل بكونه كاشفاً عن رأی الإمام× فی زمن الغیبة.

 

 

([1]) قال مؤلّف موسوعة الإجماع فی الفقه الإسلامی (ج1، ص27): «الإجماع مقطوع به فی دین الله عزّ وجلّ وأصل عظیم من اُصول الدین...».

([2]) راجع: البخاری، كشف الأسرار ، ج3، ص423؛ الآمدی، الاحکام فی اُصول الأحكام، ج1، ص254؛ الفخر الرازی، المحصول، ج4، ص20؛ ابن النجّار الحنبلی، شرح الكوكب المنیر، ج2، ص211؛ الشوکانی، إرشاد الفحول، ص85، 269-270.

([3]) قال فی موسوعة الإجماع (ج1، ص33): «والحق الّذی علیه جمهرة أهل العلم هو أنّ الإجماع لا یختصّ بالصحابة وحدهم دون غیرهم، أو أحدهما، أو أهل أیّ مصر، أو آل البیت...، لأنّ هؤلاء جزء من کلّ...».

([4]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص47.

([5]) راجع مراتب الإجماع لابن حزم (تحقیق حسن أحمد أبسر)، ص174، كتاب الفرائض. وانظر حول هذه المسألة كتابنا «مع الشیخ جادّ الحقّ شیخ الجامع الأزهر». [منه دام ظلّه العالی].

([6]) الطوسی، العدّة فی اُصول الفقه،  ج2، ص628 .

([7]) النووی، المجموع، ج 4، ص242، 245؛ السرخسـی، المبسوط، ج1، ص169، 180؛ الشوکانی، نیل الأوطار، ج3، ص216؛ ابن قدامة، المغنی، ج1، ص779.

([8]) الوجیز، ج1، ص58 ؛ النووی، المجموع، ج4، ص245- 246.

([9]) شرح فتح القدیر، ج1، ص260؛ النووی، المجموع، ج4، ص247.

([10]) النووی، المجموع، ج4، ص208؛ الوجیز، ج1، ص58 .

([11]) الطوسی، الخلاف، ج1، ص551 -  552 .

([12]) وجدت فی هامش بعض نسخ الخلاف لبعض الأفاضل الأعلام نقل العبارات الآتیة عن سیّدنا الاُستاذ المحقّق الطباطبائی دام ظلّه وعلاه، اُحبّ نقلها بلفظه فی المقام توضیحا لما أفاده فی مجلس البحث، وهذا لفظه: «أقول: أمّا المسألة الاُولى فقد وردت فیها أخبار الفرقة وعلیه إجماعهم كما ذكره.

وأمّا الثالثة فلم نجد علیها نصّاً لا فی كتابه ولا فی غیره، ولا أفتى بها فقیهٌ. نعم، یوجد فی کلام بعض المتأخّرین تجویزها تمسّكاً بإطلاقات ما دلّ على فضل الجماعة، فإنّها تعمّ الجماعة فی الكلّ والبعض، وبأخبار الاستخلاف حیث إنّ الصلاة تصیر فرادى ثم جماعةً. وهو استنباطٌ ضعیفٌ؛ لأنّ الإطلاقات واردة لبیان جهة اُخرى، وصیرورة الصلاة فرداً فی مورد الاستخلاف ممنوعة.

وأمّا الثانیة، فلم نجد فیها خبراً سوى ما رواه الحلبی وعلی بن جعفر فی جواز تسلیم المأموم قبل الإمام عند عروض الحاجة، وإثباتها به محلّ إشكال لاختصاصه بالتسلیم وبمورد العذر، مع أنّه لیس من العدول إلى الانفراد بل أتى ببعض الأقوال من الصلاة قبل الإمام وتمّت صلاته قبله، لأنّ ما قدّمه كان آخر أفعالها. حسین ط». [منه دام ظلّه العالی].

([13]) انظر من روایات الاستخلاف فی تهذیب الأحکام (الطوسی، ج3، ص283 284، ح 843).

وأمّا روایة علیّ بن جعفر، فهی سؤاله عن أخیه موسى بن جعفر÷ عن الرجل یكون خلف إمام فیطول فی التشهد فیأخذه البول، أو یخاف على شیء أن یفوت، أو یعرض له وجع كیف یصنع؟ قال: «یسلّم وینصـرف ویدع الإمام». الطوسی، تهذیب الأحکام، ج3، ص283، ح 842 .

موضوع: 
نويسنده: