پنجشنبه: 6/ارد/1403 (الخميس: 16/شوال/1445)

تقریرٌ آخر لدلیل الانسداد([1])

إعلم: إنّ الّذی ینبغی أن یقال: إنّ تقریر دلیل الانسداد بهذا النحو الّذی استقرّت علیه عادة متأخّری المتأخّرین لیس مناسباً للشـریعة الكاملة الإسلامیة، وإنّما یكون مناسباً لشریعةٍ تكون جمیع أحكامها راجعة إلى الاُمور العبادیّة وما هو وظیفة العبد فیما بینه وبین خالقه، كشـریعة المسیح الّتی لیست فیها أحكام راجعةٌ إلى السیاسات والانتظامات وقطع المحاكمات والمنازعات وغیرها من شؤون الحیاة الاجتماعیة والانفرادیة؛ فإنّ المقدّمة الثانیة ـ وهی عدم جواز إهمال تلك التكالیف المعلومة بالإجمال وترك التعرّض لامتثالها ـ لا تناسب إلّا شریعةً كانت جمیع أحكامها أو أكثرها راجعاً إلى العبادات، لا مثل الشـریعة الإسلامیة الجامعة الكافلة لجمیع ما یحتاج إلیه نوع الإنسان فی أمر معاشه ومعاده وسیاساته ومعاملاته وغیرها، فإنّ أكثر تلك الأحكام لیست من الاُمور العبادیة المحضة حتى نجعل أنفسنا بالنسبة إلیها كالرهبان ونستدلّ لعدم جواز ترك التعرّض للامتثال.

وهكذا المقدّمة الثالثة ـ وهی استلزام الاحتیاط والامتثال الإجمالی للـعسر والحرج مع وجوبه لولا استلزامه لهما ـ فإنّه لا معنى للاحتیاط فی الأحكام الراجعة إلى المعاملات والمرافعات وإجراء الحدود والدیات والقضاء وغیرها.

 

ولذا لیس فی لسان من تقدّم على المحقّق جمال الدین الخوانساری+ ذكر هذه المقدّمات([2]). فما هو المناسب لشریعتنا فی تقریره، وهو مذكور فی کلام من تعرّض لهذا الدلیل قبل المحقّق المذكور: أنّ مقتـضى آیة النفر وأشباهها من الآیات كآیة الكتمان وغیرها، والأخبار الكثیرة: وجوب تعلّم الأحكام وتعلیمها ووجوب الاستفتاء والإفتاء والقضاء، وأنّ صاحب الشـریعة لم یجعل الناس فی اُمورهم الدنیویة والاُخرویة مطلق العنان ولم یرض بفوت فوائد أحكامه عن الناس، بل أوجب علیهم التعلیم والتعلم حفظاً لتلك الفوائد وإیصالها للناس، فإذا انسدّ باب العلم بهذه الأحكام أو بطرقها المعلومة حجّیتها من جانب الشـرع، فإمّا أن یقال بالاكتفاء بالأحكام المعلومة المقطوعة المسلمة، فهو باطل بصـریح هذه الآیات والروایات كقوله|: «بعثت أنا والساعة كهاتین»([3]) الدالّة على بقاء دین الإسلام إلى یوم القیامة، وغیرها من الروایات، فإنّ الاكتفاء بهذا المقدار القلیل من الأحكام مرغوب عنه قطعاً لاستلزامه فوت جلّ فوائد الأحكام لو لم نقل بفوات كلّها عن الناس. وإمّا أن یقال بتحصیل تلك الأحكام ووجوب تعلیمها وتعلّمها على نحو لا یكون القول به والإفتاء به قولاً بغیر علمٍ، فهو لا یمكن إلّا من الطرق المتعارفة المتداولة الّتی لا یكون الإفتاء وتعلیم الأحكام فیها إفتاءً بغیر علمٍ لإطلاق العلم على مثل هذا فی القرآن والأخبار كقوله تعالى: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾.([4])

 

فظهر أنّ مع انسداد باب العلم ووجوب التفقّه والتعلّم وحرمة الكتمان ووجوب الإفتاء وبیان حكم الله لابدّ من الرجوع إلى هذه الطرق المتداولة والقول بحجّیتها عند الشارع العالم ببقاء أحكامه إلى یوم القیامة.

والحاصل: أنّ تقریر دلیل الانسداد على النحو المذكور فی کلمات من تأخّر عن المحقّق الخوانساری لیس مناسباً للشـریعة الإسلامیة، ولیس الكلام فی أنّ للشارع أحكاماً فعلیة لیس لنا إلیها طریقٌ حتّى تصل النوبة إلى مقام الامتثال ووجوب الامتثال الإجمالی والاحتیاط. بل ما هو مناسبٌ للشریعة الإسلامیة الحاویة للأحكام التكلیفیة والوضعیة بكثرتها الراجعة إلى جمیع الشؤون الحیاتیة ویستفاد من كلمات من تعرّض لدلیل الانسداد ممّن تقدّم على المحقّق الخوانساری+ هو: أنّا إمّا أن نقول بفعلیة الأحكام الشـرعیة وإرادة الشارع انتفاع عبیده بفوائد هذه الأحكام أم لا، ولا سبیل إلى الثانی، فعلى الأوّل فإمّا أن نقول بفعلیة خصوص ما قام علیه الطریق القطعی دون غیره أم لا، ولا سبیل إلى الأوّل لكونه مؤدّیاً إلى فوت فوائد هذه الأحكام الكثیرة فی جلّ أبواب الفقه ونقض غرض الشارع وهو انتظام اُمور الناس بسبب الرجوع إلى هذه الأحكام، ولذا أوجب على الناس التفقّه والتعلیم وحرّم الكتمان، وعلى الثانی لابدّ أن یكون الطریق إلى إحرازها بعد انسداد باب العلم إلى جلّ الأحكام أو بطرقها المعلومة حجّیتها عند الشارع: الطرق المتعارفة الظنّیة دون غیرها، لدوران الأمر بین فعلیة ما قام علیه الطریق الظنّی ومتابعة الظنّ أو متابعة الوهم، ولا شكّ فی كون العقل قاطعاً بحجّیة الظنّ وعدم جواز الاكتفاء بالوهم.

ولا یخفى علیك: أنّ مع هذا البیان لا معنى للمقدّمة الثالثة وهی إبطال العمل بالبراءة، ولا المقدّمة الرابعة وهی إبطال الاحتیاط، ولا معنى لدوران الأمر بین الامتثال الظنّی والشكّی والوهمی كما ذكر فی المقدّمة الخامسة، فإنّه إنّما یتصوّر بالنسبة إلى جمیع الأحكام بعد عدم إمكان الاحتیاط والتعرّض للامتثال الشکّی والوهمی والظنّی.

وأمّا على ما ذكرنا فیدور الأمر فی کلّ واقعةٍ بین الأخذ بالظنّ أو الوهم، فالمفتی والقاضی

 

والسائس فی مقام الفتوى والقضاء وإجراء السیاسة یدور أمره بین الأخذ بالطریق الظنّی أو الوهمی. ولا ریب فی أنّ العقل قاطع بفعلیة الحكم إذا قام علیه الطریق الظنّی.

وأیضاً لا حاجة إلى المقدّمة الاُولى ـ وهی دعوى العلم الإجمالی بوجود تكالیف كثیرة ـ لكون احتمالها أیضاً منجّزاً، هذا.

 

([1]) وهو مناسب لمسلك القدماء، وقدّ من علینا سیّدنا الاُستاذ أدام الله‏ ظلّه وعلاه ببیانه وتحقیقه، وكم له من مثل هذه الفوائد الجلیلة فی الاُصول والفقه وغیرهما من العلوم ممّا لعلّه لم یتفطّن إلیها غیره من معاصریه بل المتأخّرین. [منه دام ظلّه العالی].

([2]) یقول الشیخ الأنصاری+: «لم یذكر صاحب المعالم وصاحب الوافیة فی إثبات حجّیة الظنّ الخبری غیر انسداد باب العلم، وأمّا الاحتمالات الآتیة فی ضمن المقدّمات  الآتیة من الرجوع بعد انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ إلى شیء آخر غیر الظنّ فإنّما هی اُمور احتملها بعض المدقّقین من متأخّری المتأخّرین، أوّلهم فیما أعلم المحقّق جمال الدین الخوانساری حیث أورد على دلیل الانسداد باحتمال الرجوع إلى البراءة واحتمال الرجوع إلى الاحتیاط، وزاد علیها بعض من تأخّر احتمالات اُخر». الأنصاری، فرائد الاُصول، ص112.

([3]) السیوطی، الجامع الصغیر، ج1، ص126؛ النووی، المجموع، ج4، ص516؛ المتّقی الهندی، كنز العمّال، ج14، ص190، 194-195، 547.

([4]) الأحقاف، 4.

موضوع: 
نويسنده: