شنبه: 1/ارد/1403 (السبت: 11/شوال/1445)

الفصل الثانی:
فی أصالة التخییر
(دوران الأمر بین الوجوب والحرمة)

قال فی الكفایة: إذا دار الأمر بین وجوب شیءٍ وحرمته لعدم نهوض حجّة على أحدهما تفصیلاً بعد نهوضها علیه إجمالاً ففیه وجوه.([1])

أقول: إنّ السیّد الاُستاذ+ ـ على ما كتب عنه الفاضل المقرّر ـ أفاد بأنّ البحث تارة: یلاحظ بالنسبة إلى نفس الحكم الواقعی من الوجوب والحرمة من حیث تنجّزه وعدمه. واُخرى: یلاحظ بالنسبة إلى الشكّ فی الحكم الواقعی وأنّه هل هو الحرمة أو الوجوب. وثالثة: بالنسبة إلى الالتزام القلبی.

وأفاد فی المورد الأوّل بأنّه لا شبهة فی تنجّز الحكم الواقعی للعلم التفصیلی بجنسه والعلم الإجمالی بنوعه، إلّا أنّه لمّا لم یكن نوع الحكم معلوماً بالتفصیل وكان مردّداً بین الحرام والواجب وباعتبار وحدة متعلّقهما ودوران الأمر بین المحذورین، لا یمكن الاحتیاط. فلابدّ من الكلام فیما هو التكلیف بحسب الظاهر وهو المورد الثانی وهو حكم الواقعة ظاهراً،([2]) وفیه وجوه:

أحدها: أن یكون الحكم فی هذه الواقعة البراءة نقلاً وعقلاً، لعموم النقل وحكم العقل بقبح العقاب على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به.

 

ثانیها: وجوب الأخذ بأحد الحكمین تعییناً.

ثالثها: وجوب الأخذ به تخییراً.

رابعها: التخییر بین الفعل والترك عقلاً، مع التوقّف عن الحكم به رأساً فی مقام الإفتاء.

أو مع الحكم بالإباحة شرعاً. والظاهر أنّ هذا هو الوجه الخامس.

والفرق بین الوجوه المذكورة: أنّ الأوّل یقتضی عدم تنجّز الحكم الواقعی، سواء كان وجوبیاً أو تحریمیاً، لأنّه لا یثبت بجریان البراءة حكم ظاهری.

ومقتضى الوجه الثانی الحكم الطریقی الظاهریّ المنجّز للحكم المجهول، فإنّه إن كان الواقع المجهول حراماً یتنجّز بذلك الحكم الظاهریّ.  والوجه الثالث أیضاً كذلك، أی یقتضی حكماً طریقیاً ظاهریاً. غایة الأمر أنّ الحكم الواقعی تنجّزه تابع لاختیار المکلّف ، فما اختاره من الحكمین یتنجّز علیه فی صورة الإصابة، ویكون عذراً فی صورة الخطأ، سواءٌ كان التخییر بدویاً أو استمراریاً.

والوجه الرابع لا یكون مقتضیاً لعدم التنجّز بطریقٍ كان الوجه الأوّل مقتضیاً له؛ لأنّه باعتبار البراءة النقلیة إنّما یكون دالّا على عدم تنجّز الحكم الواقعی بمعنى عدم إیجاب الاحتیاط الطریقی، فإنّ الحكم بـصرف الاحتمال لا یكون منجّزاً، وباعتبار البراءة العقلیة یكون دالّا على أنّ صرف الاحتمال لا یكون سبباً للتنجّز. وعلى هذا، فالعقاب على مخالفة المجهول یكون عقاباً بلا بیان.

أمّا الوجه الرابع، فهو أیضاً دالّ على عدم التنجّز، لكن لا باعتبار عدم سببیة صرف الاحتمال للتنجّز؛ لأنّ الحكم الواقعى فی مثل المقام معلومٌ بجنسه وإن كان بنوعه محتملاً، ومعلومیة الحكم بجنسه تكفی فی تنجّزه عقلاً، لأنّه إذا علم إجمالاً بحرمة شرب التتن مثلاً، ووجوب الدعاء عند رؤیة الهلال، فلا شبهة عند العقل بلزوم ترك الأوّل وفعل الثانی لمكان العلم الإجمالی، والمقام یكون كذلك، والدالّ على عدم تنجّزه

 

أمرٌ آخر وهو عدم إمكان الموافقة والمخالفة القطعیتین فی المقام، وعدم ترجیحٍ بینهما عند العقل، وهو الحاكم بعدم التنجّز والتخییر بین الفعل والترك. فحكم العقل بالتخییر فی المقام لیس من باب عدم تنجّز الحكم باعتبار كونه مشكوكاً بل باعتبار عدم إمكان الجری على طبق المعلوم إجمالاً.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أنّ أصحّ هذه الوجوه هو الوجه الرابع، أی حكم العقل بالتخییر بین الفعل والترك، لعدم إمكان الاحتیاط، وعدم الترجیح بین الفعل والترك. ولعدم الدلیل على سائر الوجوه.

أمّا الوجه الثانی والثالث، فلا دلیل یدلّ على وجوب الأخذ بأحدهما تخییراً أو تعییناً ظاهراً، من حیث كونه حكماً ظاهریاً وطریقاً إلى الواقع.

وأمّا الوجه الأوّل، فهو ضعیفٌ، لأنّ مجرى البراءة العقلیة والنقلیة ما إذا كان الحكم مشكوكاً فیه حتى من جهة جنسه، أمّا إذا كان معلوماً ولو بجنسه فلا تجری البراءة فیه، وإجراؤهما فی طرفی العلم الإجمالی لا یجتمع مع العلم الإجمالی. غایة الأمر أنّ العقل لمّا یرى أنّه لابدّی من ارتكاب الفعل أو تركه وعدم الترجیح، بینهما یحكم بالتخییر.

ولا یتوهّم أنّ ما یدلّ على التخییر فی باب تعارض الخبرین یدلّ على ذلك حتى یكون التخییر شرعیاً، لأنّ حجّیة الخبر إن كانت من باب السببیة والموضوعیة یدخل تعارض الخبرین فی باب المتزاحمین فیقال بالتخییر، ولیس هنا كذلك، لأنّه لا یكون فی البین إلّا حكمٌ واحدٌ معلومٌ فی الواقع. وإن كان من باب الطریقیة فالقول بالتخییر فیه أو تعیین أحدهما مختصٌّ بخصوص مورده لقیام الدلیل علیه، دون مقامنا هذا.

وأمّا القول بالإباحة الشرعیة، فیمكن أن یوجّه بشمول مثل قوله×: «كلّ شیءٍ لك حلالٌ حتى تعرف أنّه حرامٌ» له.  وفیه: أنّ مثله إنّما یجری فی غیر مورد العلم الإجمالی بنوع التكلیف والعلم التفصیلی بجنسه. مضافاً إلى أنّ شموله لمثل المقام بعد

 

حكم العقل بالتخییر لغوٌ لا فائدة فیه. ومضافاً إلى أنّ الحدیث المذكور وأمثاله مثل: «كلّ شیءٍ مطلقٌ» لا یفید إلّا نفی احتمال التحریم، ویبقى طرف الوجوب على حاله لا یشمله، فلا یكون دلیلاً على إباحة ما علم بالإجمال وجوبه أو حرمته وجواز الفعل والترك فیه، فافهم.

 

([1]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج2، ص203.

([2]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة على كفایة الاُصول، ج2، ص 255 - 256.

موضوع: 
نويسنده: