پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

المقام الثانی دوران الأمر بین الأقلّ والأكثر الارتباطیّین

لا یخفى علیك: أنّ مرادهم فی المقام من الأكثر ما هو مشتمل على الأقلّ وحاویه مع شیءٍ زائدٍ علیه، لكن لا تكون زیادته على الأقلّ مانعةً عن صحّة الأقلّ.

وبعبارة اُخرى: الأقلّ: ما لوحظ لا بشرط عمّا یزاد علیه بالإتیان بالأكثر. والأكثر: ما هو مشروطٌ بما كان الأقلّ لا بشرط عنه.

ومعنى الارتباط بینهما: أنّ المأمور به لو كان الأكثر فلابدّ وأن یوتى به، فإن أتى بالأقلّ لم یأت بالمأمور به.

ومن ذلك یعلم: أنّ ذلك فی الصلاة لا یكون إلّا فی الأجزاء غیر الركنیة كوجوب السورة. وأمّا فرض الشكّ بین الأقلّ والأكثر فی أركان الصلاه، فهو من الشكّ فی المتباینین.

إذا عرفت ذلك، فاعلم: أن الشیخ+ اختار فی المسألة البراءة العقلیة.  ودلیله على ما اختاره ـ حسبما ذكره السیّد الاُستاذ قدس سرهما ـ هو: أنّا نعلم بالتفصیل بتوجّه الأمر ـ بكلّه أو ببعضه ـ  إلى الأقلّ وإن شكّ فی تعلّقه بالزائد، والعلم بتوجّه الأمر به ولو كان ببعضه یكفی فی تنجّزه ووجوب امتثاله عند العقل، وحرمة مخالفته بخلاف الزائد، للشكّ فی تعلّق الأمر به.

ولیس معنى ذلك أنّه علم إجمالاً بوجوب الأقلّ والأكثر ثم انحلّ العلم الإجمالی بالتفصیلی فی الأقلّ والشكّ البدوی بالنسبة إلى الأكثر، حتى یرد علیه ما یأتی من

 

الكفایة. وهذا ما یستفاد من مطاوی کلما ت الشیخ،([1]) إلّا أنّه یستفاد من بعض کلمـاته أنّ الدلیل على البراءة فی المقام هو الانحلال المذكور، وهذا ما قاله فی آخر کلامه بلفظه:

«وبالجملة: فالعلم الإجمالی فیما نحن فیه غیر مؤثّرٍ فی وجوب الاحتیاط، لكون أحد طرفیه معلوم الإلزام تفصیلاً والآخر مشكوك الإلزام».([2]) ثم قال بعد سطورٍ: «ولا عبرة به بعد انحلاله إلى معلومٍ تفصیلیٍّ ومشكوكٍ».([3])

ووجه الانحلال عنده: أنّ الأقلّ واجبٌ مطلقاً إمّا بالوجوب النفسـی أو بالوجوب المقدّمی، وأمّا الأكثر فإن كان واجباً فلا یكون إلّا بالوجوب النفـسی، فالأقلّ واجبٌ تفصیلاً معلومٌ وجوبه، والأكثر وجوبه مشكوك.

وبعبارة اُخرى: وجوب الأقلّ منجّزٌ یجب على المکلّف امتثاله دون الأكثر؛ فإنّ وجوبه النفسی مشكوك مجهولٌ فلا یجوز العقاب على تركه، لأنّه عقابٌ بلا بیان.

هذا، واختار المحقّق الخراسانی فی المسألة: لزوم الاحتیاط ـ بالإتیان بالأكثر ـ عقلاً؛([4]) لأنّ تعلّق التكلیف بالأقلّ أو الأكثر یكون نظیر المتباینین یجب الخروج عنه تعلّق بالأقلّ أو بالأكثر، إلّا أنّه فی المتباینین ـ المصطلح قبال الأقلّ والأكثر ـ لا یمكن الاحتیاط ولا یخرج المكلّف عن عهدة التكلیف المردّد بینهما إلّا بإتیان کلّ منهما مستقلّا، وفی الأقلّ والأكثر الارتباطیین یتحقّق الاحتیاط والامتثال بالإتیان بالأكثر ولا یجب علیه أن یأتی بالأقلّ مستقلّا وبالأكثر كذلك.

 

فالأقلّ والأكثر الارتباطیان قسمٌ من المتباینین لا قسیمهما؛ وذلك لأنّ الملحوظ فی کلّ منهما ـ إن كان هو المأمور به ـ غیر ما هو الملحوظ فی الآخر، إن كان هو المأمور به فالملحوظ فی الأقلّ ـ إن كان هو المأمور به ـ تسعة أجزاء وهو غیر الملحوظ فی الأكثر وهو عشرة أجزاء ـ إن كان هو المأمور به ـ  فهما فی مقام الجعل متباینان لا یمكن إجراء البراءة عن تعلّق الحكم بأحدهما دون الآخر، فبالعلم الإجمالی نعلم تعلّق الأمر إمّا بالمركّب من تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء، فكلٌ منهما طرفٌ للعلم ولیس العقاب على ترك کلّ واحدٍ منهما ـ لو كان هو المأمور به ـ عقاباً بلا بیان.

نعم، الملحوظ فی الأقلّ ـ إن كان هو المأمور به ـ وما جعله الآمر تحت أمره لا بشرط عن الزیادة علیه، ولكنّه بما هو ملحوظ عند تعلّق الأمر به غیر الأكثر، ولكن فی مقام الامتثال یكتفى بالأكثر ویتحقّق الاحتیاط بالإتیان به، ولا یجب الإتیان بكلٍّ منهما مستقلّا كغیرهما من المتباینین، فافهم وتدبّر فی ذلك حتى لا تتوهّم كما توهّمه البعض أنّ كون النسبة بین الأقلّ والأكثر التباین تقتضی الاتیان بكل منهما مستقلّا.

فما تنبّه إلیه بعض المعاصرین فإمّا أن یكون من إفادات المحقّق الخراسانی+، أو من إفادات تلمیذه العظیم السیّد الاُستاذ+ وإن كان الغالب على الظنّ أنّه من المحقّق الخراسانی، بل هو مذكورٌ فی کلمـا ت صاحب الحاشیة([5]) كما أشار إلیه اُستاذنا المحقّق مقرّر بحث الشیخ النائینی فی فوائد الاُصول.([6]) شكّر الله‏ مساعی الجمیع، وجزاهم عن الإسلام خیر الجزاء، وغفر لنا زلّاتنا، فإنّه الغفور الغفّار.

ثم إنّ المحقّق الخراسانی+ أجاب عن الانحلال المذكور فی کلام الشیخ: بأنّ الانحلال بالعلم التفصیلی بوجوب الأقلّ والشكّ فی الأكثر یلزم من وجوده العدم؛

 

وذلك لأنّ العلم التفصیلی بوجوب الأقلّ لا یحصل إلّا إذا كان الأكثر واجباً بالوجوب الفعلی، حتى یكون الأقلّ على فرض عدم وجوبه بالوجوب النـفسی واجباً بالوجوب التبعی ویكون واجباً على کلّ تقدیرٍ، وفرض فعلیة وجوب الأكثر لا یجتمع مع الانحلال والشكّ فی وجوب الأكثر، ویلزم من فرض الانحلال عدم وجوب الأكثر ومن عدم وجوب الأكثر عدم الانحلال.([7])

هذا، وأفاد السیّد الاُستاذ فی وجه عدم وجوب الاحتیاط وجواز الاكتفاء بالأقلّ بما هو قریبٌ ممّا قال عنه بأنّه یستفاد من مطاوی كلمات الشیخ+ وإن كان ظاهر بعض کلماته الاخرى أنّ الوجه لذلك هو الانحلال.

وكیف كان، فقد أفاد السیّد الاُستاذ+: بأنّ المرّكب الاعتباری الجعلی یعتبر باعتبار اُمورٍ وأشیاء متشتةٍ شیئاً واحداً تكون تلك الأشیاء أجزاءها، فهو كثیرٌ بالكثرة الحقیقیة وواحدٌ بالوحدة الاعتباریة، فإذا تعلّق الأمر بهذا المركّب ینبسط على أجزائه بحیث یرى كلّ جزءٍ منه مأموراً به واجب الإتیان به، وتعلّق الأمر بها یكون بعین تعلّقه بالمركّب. فإذا شككنا فی وقوع شیءٍ تحت هذا الأمر، أو أنّ المعتبر اعتبره فی المركّب یكون الأصل عدم اعتباره جزءاً، كما أنّ الأصل براءة الذمّة عقلاً عن الإتیان به. وبعبارة اُخرى: انبساط الأمر على الأقلّ معلومٌ وعلى الأكثر مشكوك.([8])

 

لا یقال: إنّ الإتیان بالأقلّ لا یوجب رفع الشكّ بالامتثال به، لأنّه إذا كان الأكثر مأموراً به یكون تحقّق امتثال الأمر بالأقلّ منوطاً بالأكثر لارتباطه به، فیجب الإتیان بالأكثر لتحصیل العلم بامتثال الأمر المتعلّق بالأقلّ.([9])

فإنّه یقال: إذا كان الأمر منبسطاً على الأجزاء یتحقّق بإتیان کلّ جزء منه امتثالُ مقدارٍ من الأمر، وهذا المقدار یكفی فی تحقّق الامتثال وكون العبد فی مقام الانقیاد والإطاعة. ولا دخل لإتیان ما یحتمل دخله فی المأمور به فی امتثال الأمر. وبعبارة اُخرى: القدر المتیقّن ممّا وقع تحت الأمر هو هذا الجزء المرتبط بسائر الأجزاء المعلومة، ویكفی فی امتثال الأمر به الإتیان به.

هذا، وتظهر النتیجة للمبانی المذكورة أوّلاً: أنّه إذا أتى بالأقلّ وكان المأمور به بحسب الواقع الأكثر فعلى ما بنى علیه المحقّق الخراسانی یكون معاقباً بترك الأكثر، وأمّا على مبنى الشیخ وما بنى علیه السیّد الاُستاذ فهو معذورٌ لا یستحقّ المؤاخذة.

وثانیاً: إن لم یأت لا بالأكثر ولا بالأقلّ فهو یستحقّ العقوبة على الأقلّ على القول بعدم وجوب الاحتیاط، وعلى الأكثر على القول بوجوب الاحتیاط وكون المأمور به فی الواقع الأكثر، وإلّا فلا یستحقّ العقوبة إلّا على الأقلّ، والله هو العالم.

هذا کلّه بحسب حكم العقل والبراءة العقلیة.

 

([1]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص272 - 274.

([2]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص274.

([3]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص274.

([4]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص228.

([5]) الأصفهانی، هدایة المسترشدین، ص449.

([6]) النائینی،فوائد الاُصول، ج4، ص152، الفصل الرابع من فصول دوران الأمر بین الأقلّ والأكثر.

([7]) یمكن أن یقال: إنّ فی دوران الأمر بین الأقلّ والأكثر الارتباطیین لا یتنجّز بالعلم بالدوران وجوب الأكثر إن كان الواجب فی الواقع الأكثر؛ لأنّ ذلك یكون إن كان الأقلّ على فرض وجوب الأكثر غیر واجب، وفی المقام الأقلّ واجب وإن كان الأكثر أیضاً واجباً، فالأقلّ واجب على کلّ حال على فرض تعلّق الوجوب به مستقلّا أو فی ضمن الأكثر، ومعنى دوران الأمر بین الأقلّ والأكثر الارتباطیین العلم بوجوب الأقلّ والشكّ فی الأكثر، وانحلال العلم بالدوران لیس إلّا هذا. وبعبارة اُخرى: قبل انحلال العلم بدوران الأمر بین الأقلّ والأكثر كان التكلیف مردّداً بین الأقلّ والأكثر وكان الأكثر مجرى البراءة دون الأقلّ، لأنّ جریان البراءة فی الأقلّ منافٍ لأصل التردید دون الأكثر وبعدما یعبّر عنه بالانحلال أیضاً التردید على حاله. [منه دام ظلّه العالی].

([8]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة على كفایة الاُصول، ج2، ص285- 286.

([9]) راجع: الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص357؛ النائینی، فوائد الاُصول، ج4، ص161؛ العراقی، نهایة الأفكار، القسم الثانی من الجزء الثالث، ص387- 388.

موضوع: 
نويسنده: