جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

التنبیه الثالث: فی استصحاب الكلّی

المستصحب إن كان حكماً أو موضوعاً جزئیاً فلا ریب فی جواز استصحابه.

وإن كان أمراً کلّیاً فإمّا أن یكون الشكّ فی بقائه من جهة الشكّ فی بقاء الفرد الّذی یكون الكلّی موجوداً فی ضمنه، فلا إشكال فی استصحاب الكلّی لترتیب الأثر الثابت له. كما لا إشكال فی استصحاب الفرد المشكوك بقاؤه الّذی كان الكلّی موجوداً فی ضمنه للأثر الشرعی المترتّب على نفس الفرد. وهذا مثل الشكّ فی الحیوان باعتبار الشكّ فی بقاء الفیل مثلاً بشخصه.

ولكن لا یخفى علیك: أنّ تسمیة هذا بالاستصحاب الكلّی مبنیّ على المسامحة، لأنّ وجود الكلّی الطبیعی عین وجود فرده واستصحاب الفرد یغنی عن استصحابه. فما قال بعضهم من عدم جواز استصحاب الفرد لإثبات الأمر المترتّب على الكلّی إلّا على القول بالاُصول المثبتة، كأنّه لیس فی محلّه.

والقسم الثانی: من استصحاب الكلّی ما یكون الشكّ فی بقاء الكلّی من جهة تردّد وجوده بین ما یكون مقطوع الزوال وما یكون مشكوك البقاء أو مقطوع البقاء. وفی هذا یجری أیضاً استصحاب الكلّی كالحیوان المردّد وجوده فی ضمن البقّ أو حیوان مشكوك البقاء أو مقطوع البقاء كالفیل. والتردّد المذكور لا یمنع من استصحاب الكلّی المردّد وجوده بین الحیوانین المفروضین لتمامیة أركان الاستصحاب.

وقد اُشكل على هذا الاستصحاب: بأنّ الشكّ فی بقاء ذلك الكلّی المردّد بین الخاصیّن مسبّب عن الشكّ فی حدوث الخاصّ المتیقّن البقاء على تقدیر حدوثه المحكوم بعدم الحدوث بالأصل، ومع جریانه فی السبب لا یبقى مجال لإجرائه فی المسببّ.

وفیه: أنّ الشكّ فی بقاء الكلّی وارتفاعه لیس من لوازم حدوث الخاصّ ـ أی الفرد الطویل ـ حتى یكون محكوماً بالعدم بحكم الأصل، بل یكون من لوازم كون الحادث

 

المتیقّن وجوده هل هو المتیقّن الارتفاع أو المتیقّن البقاء؟ فیكون الشكّ فی خصوصیة الحادث وهذه لیس مسبوقة بالعدم حتى تستصحب.

وأیضاً یجاب عن هذا الإشكال: بأنّه یكون بناءً على ثبوت الملازمة بین وجود الفرد والكلّی حتى یكون الأصل فی الفرد مغنیاً عن إجراء الأصل فی الکلّی، ولكنّ التحقیق أنّ الكلّی موجود بعین وجود الفرد كما قیل: «الحقّ: أنّ وجود الطبیعی بمعنى وجود أشخاصه»، وعلى هذا یسقط التوهّم المذكور من إجراء الأصل فی السبب ونفیه فی المسبب.

ویجاب ثالثاً: على فرض تسلیم الملازمة بین الكلّی والفرد، ولكن إجراء الأصل فی السبب یغنی عنه فی المسبّب إذا كان بینهما ملازمة شرعیة لا عقلیة ولا عادیة، واللزوم بین الكلّی والفرد عقلی، فلا نستغنی بإجراء الأصل فیه عن الأصل فی الكلّی.([1])

هذا، وقد أورد السیّد الاُستاذ على اُستاذه صاحب الكفایة بأنّ نظر المستشكل فی جریان أصالة عدم حدوث الخاصّ لیس إلى نفی الكلّی حتى یقال: إنّه من لوازم الحادث لا الحدوث، بل نظره إلى ما هو الأثر للكلّی شرعاً، وأنّ نفی الخاصّ یكفی فی نفی الأثر الشرعیّ المرتّب على الكلّی لخفاء الواسطة، وأنّ العرف یرى الأثر مرتّباً على الفرد لا على الكلّی الّذی هو فی ضمن الفرد. وقولكم: إنّ الكلّی عین الفرد، ووجوده وجود الفرد مؤیِّد لذلك. فعلى هذا، یكفی فی عدم ترتّب الأثر الّذی هو للكلّی لا الكلّی نفی الفرد.

وعلى ذلك، لا یبقى مجال للجواب الثالث من أنّ ترتّب آثار الكلّی على الخاصّ عقلی لا شرعی، فإنّ العرف یرى الآثار آثاراً للفرد.

 

ثم إنّه یمكن أن یقال فی قوله فی دفع التوهّم: «إنّ بقاء الكلّی وارتفاعه لیسا من لوازم الحدوث بل من لوازم الحادث»: إنّه وإن كان كذلك، لكن لا یمنع من جریان الأصل فی السبب بأن یقال: إنّ المراد من اللازم وإن كان من لوازم الحادث إلّا أنّ الكلّی فی الخاصّ أیضاً یكون معلولاً له والجنس یكون معلولاً للصورة النوعیة. وعلى هذا، یكون الشكّ فی بقاء الكلّی فیما إذا تردّد بین كونه مقطوع الزوال أو مقطوع البقاء كالحیوان المردّد بین البقّ والفیل مسبّباً عن الشكّ فی أنّه هل وجد الفیل أم لا؟ والأصل عدمه. وعلى ذلك کلّه لا یبقى مجال لاستصحاب الكلّی.

ولكن بعد ذلك یمكن أن یقال: إنّ عدم الكلّی لیس مركّباً من أعدام نظیر المركّبات الوجودیة حتى یحرز بعض أجزائها بالأصل وبعضها بالوجدان، بل عدم الكلّی أمر بسیط ینتقض بوجود فرد منه، فلا یقال: إنّه معدوم باعتبار عدم سائر أفراده. وعلى هذا، لا یثبت عدم الكلّی باستصحاب عدم الفرد المشكوك حتى یمنع من استصحاب وجود الكلّی.([2])

أقول: لا کلام فی أنّه باستصحاب عدم بعض أفراد الكلّی لا یثبت نفی الكلّی ولا یحكم بعدمه به، ولكن إذا كان سائر أفراده غیر الفرد المشكوك وجوده معلوم العدم لم لا یحكم باستصحاب عدم المشكوك بعدم الكلّی؟ كما یقال فی المركّبات الوجودیة بوجود المركّب بإثبات بعض أجزائه بالأصل والبعض الآخر بالوجدان.

اللّهمّ إلّا أن یقال: إنّ ذلك لا یثبت عدم الكلّی إلّا على القول بالأصل المثبت، وهذا كما إذا كان لمجموع المركّب بعنوانه المجموعی الواقعی حكم، فإنّه یمكن أن یقال: إنّ باستصحاب وجود بعض الأجزاء لا یثبت العنوان الّذی هو موضوع الحكم إلّا بالأصل المثبت.

 

هذا کلّه فی القسم الثانی من استصحاب الكلّی.

وهنا قسمان آخران الثالث والرابع.

القسم الثالث: وهو ما إذا شكّ فی بقاء الكلّی لاحتمال وجود فرد آخر مقارناً مع وجود الفرد الّذی نقطع بعدمه فی آن بعد ذلك.

ولا ریب فی عدم جریان استصحاب الكلّی بعد القطع بعدم ما هو كنّا نقطع بوجوده لاحتمال وجود فرد آخر منه مقارناً لوجوده، وذلك لفقد أركان الاستصحاب من اتّحاد القضیة المشكوكة والمتیقّنة؛ لأنّ المتیقّن السابق مقطوع الزوال فی الآن الثانی، والمشكوك مشكوك الوجود من أوّل وجوده، فلیس هنا شكّ فی البقاء بل الشكّ فی الحدوث.

القسم الرابع: وهو ما إذا كان الشكّ فی بقاء الكلّی من جهة احتمال فرد آخر مقارناً لارتفاع الفرد الّذی نقطع بارتفاعه.

وحكم هذا أیضاً كسابقه لا یجری فیه الاستصحاب، كما لا یخفى.([3])

ثم إنّه لا یخفى علیك أنّ ما ذكر إنّما یكون فی الكلّی إذا كان متواطئاً([4]) وأمّا فی الكلّی المشكّك([5]) فلا مانع من استصحابه إذا شكّ فی بقائه من جهة الشكّ فی ارتفاعه أو تبدّل مرتبته الشدیدة مثلاً بالمرتبة الضعیفة كالسواد الشدید إذا شكّ فی ارتفاعه أو تبدّله إلى الضعیف، ففی الحقیقة هذا من القسم الأوّل.

وعلى ما هو مقتـضى التحقیق فی الفرق بین الإیجاب والاستحباب، والحرمة والكراهة من كونه بشدّة الطلب وضعفه، أو شدّة الزجر وضعفه، یمكن أن یقال

 

بصحّة استصحاب المطلوبیة والرجحان، أو المزجوریة والمرجوحیة إذا شكّ فی بقاء کلّ واحد منهما بعد العلم بارتفاع الوجوب أو الحرمة.

لا یقال: إنّ العرف یرى الإیجاب والاستحباب من المتباینین، ولا یرى الشكّ فی الاستحباب بعد رفع الإیجاب من اتّحاد القضیّة المشكوكة والمتیقّنة، لاختلاف موضوعهما وإن كان كذلك بحسب الدقّة العقلیة.

فإنّه یقال: هذا مسامحة من العرف، ولعلّ منشأ مسامحتهم فی هذا النظر ما قرع سمعهم من الفقهاء من عدّ الأحكام الخمسة فتوهّموا تباینها، وبعد الالتفات إلى عدم صحّة منشأ توهّمهم وأنّ الفرق بینها یكون بالشدّة والضعف یرون نفی الرجحان أو المرجوحیة من نقض الیقین بالشكّ، فأفهم وتأمّل.

 

([1]) انظر الأجوبة الثلاثة من المحقّق الخراسانی فی الكفایة (ج2، ص311 312).

([2]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة على كفایة الاُصول، ج2، ص392 - 394.

([3]) وذهب الشیخ الأنصاری إلى التفصیل بین القسمین وقال بجریان استصحاب الكلّی فی الأوّل دون الثانی، فراجع: فرائد الاُصول (ص372).

([4]) كاحتمال تحقّق الحدث الأكبر (الجنابة) مقارناً مع الحدث الأصغر (النوم) المتیقّن أو بعد زواله بالوضوء مثلاً.

([5]) كاحتمال حدوث مرتبة ضعیفة من الشكّ بعد زوال المرتبة الشدیدة منه فی كثیر الشكّ.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: