جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

إزاحة وهم

لا یخفى علیك: أنّ ما ذكر من توهّم التعارض بین الاستصحابین محكیّ عن الفاضل النراقی+.([1]) وحكی عنه أیضاً التعارض بینهما إذا كان الشكّ فی البقاء من جهة عروض ما یشكّ فی رافعیته، كما إذا شكّ فی بقاء وجوب الصوم لعروض مرض یشكّ فی بقاء وجوبه معه. وكما إذا حصل له الشكّ فی بقاء الطهارة بعد المذی. وأیضاً كما إذا شكّ فی طهارة الثوب النجس بعد الغسل بالماء مرّة. فاستصحاب عدم جعل الشارع وجوب الصوم مع المرض الّذی عرض له، وعدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذی، واستصحاب نجاسة الثوب النجس بعد الغسل بالماء مرّة، یكون معارضاً لاستصحاب وجوب الصوم، ولاستصحاب الطهارة بعد المذی، ولاستصحاب عدم كون المنجّس الّذی تنجّس به الثوب بالملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة، فعلى هذا، یتساقط الاستصحابان فی مثل هذه الصور.

 

وأجاب صاحب الكفایة عن المثال الثانی والثالث: بأنّ الطهارة الحدثیة والخبثیة وما یقابلها تكون ممّا إذا وجدت بأسبابها تبقى ولا تزول إلّا بما یكون رافعاً لها، فلا یشكّ فی بقائها إلّا بالشكّ فی تحقّق الرافع لها، فلا معنى لأصالة عدم جعل الوضوء سبباً للطهارة بعد المذی حتى یعارض بها أصالة بقاء الطهارة، ولا لأصالة عدم جعل الملاقاة سبباً للنجاسة بعد الغسل مرّة حتى یعارض بها أصالة بقاء النجاسة.([2])

ولم یتعرّض للمثال الأوّل فضلاً عن جوابه.

ولعلّ نظره إلى أنّ الشكّ فی تلك الأمثلة کلّها یرجع إلى الشكّ فی الرافع والأصل عدمه وبقاء ما شكّ فی رفعه به.

نعم، فی الجمیع لا یكون الشكّ فی وجود الرافع المعلوم رافعیته، بل تكون الشبهة حكمیة فی أنّ المذی هل یكون رافعاً للطهارة؟ أو الغسل مرّة هل یكون رافعاً للنجاسة؟ أو خصوص هذا المرض هل یكون رافعاً لوجوب الصوم أو مانعاً من تعلّق وجوبه؟ فتدبّر جیّداً.

ثم إنّ السیّد الاُستاذ أعلى الله‏ مقامه قد أفاد فی المقام فی تعریف البقاء المعتبر فی الاستصحاب:

إنّ البقاء یطلق تارة على ما هو المجرّد من الزمان كذات الله‏ تعالى.

وتارة: یطلق على الزمان والزمانیات.

فبالاعتبار الأوّل یكون المراد منه الذات الّذی لا یزول ولا یزال فلا نهایة له ولا نفاد. والمراد من الثانی البقاء فی آن متأخّر بعد كونه فی الآن المتقدّم. وعلى ذلك للبقاء أربعة أقسام.

 

الأوّل: ما یطلق على الّذی هو باقٍ بنفسه خارج عن الزمان متقدّم علیه وعلى جمیع الزمانیات بالذات وبالعلّیة، وهو الباری تعالى.

الثانی: الموجود الممتدّ بالتدریج ذات أبعاض یتقدّم بعضها على بعض بالذات بحسب الوجود لا بالعلّیة وینصرم المتقدّم قبل وجود المتأخّر، مثل الزمان نفسه.

الثالث: الموجود الامتدادی التدریجی فی الزمان ومحدوداً بالحدّ الزمانی، وله أیضاً أبعاض بعضها متقدّم على بعض بالذات وبالزمان وینصرم وجود بعضها قبل بعض، ویكون وجوده بتمامه عند انصرام تمامه ونفاد وجوده، مثل التكلّم والمـشی والمركّبات الاعتباریة كالصلاة وغیرها من الاُمور التدریجیة.

الرابع: ما هو موجود فی الزمان بتمام أبعاضه وسائرٌ فی الزمان بتمام وجوده، مثل وجود زید وعمرو وحجر وشجر وغیرها.

وبعد ما عرفت من معنى البقاء وأقسام الموجودات الزمانیة تعرف عدم جریان الاستصحاب فی الزمان والزمانیات التدریجیة، وذلك لعدم صدق البقاء علیها لا بالنسبة إلى أبعاضها، لأنّ کلّ بعض منها یتصوّر فهو یعدم وینتفی بعد وجوده، فلیس له قرار حتى یحكم ببقائه، فلا یشكّ فی شیء زال وانعدم حتى یحكم ببقائه بالاستصحاب. وأمّا بالنسبة إلى تمام وجوده فهو أیضاً ینعدم بمجرّد التمامیة لا یفرض له وجود حتى یقع الشكّ فی بقائه وزواله.

لا یقال: هذا تامّ بالنسبة إلى أصل الزمان. وأمّا بالنسبة إلى القطعة الخاصّة منه مثل ما سمّی بالنهار باعتبار محاذاة الشمس ومواجهتها للأرض فی هذه القطعة من الزمان وباللیل باعتبار عدم محاذاتها لها، فلو شكّ فی بقاء النهار أو بقاء اللیل وهذه القطعة من الزمان نحكم ببقائه بحكم الاستصحاب.

فإنّه یقال: ننقل الكلام فی هذه القطعة، فإنّه لا یعتبر البقاء فی أبعاضها بعین ما قلناه

 

فی أجزاء أصل الزمان. وبالنسبة إلى تمامها أیضاً لا یعتبر البقاء، لأنّه إن كان قبل التمامیة لم یتحقّق وجودها حتى یشكّ فی بقائها، وبعد تمامها لا وجود لها، فلا مجال لاعتبار البقاء لها.

فإن قلت: الحكم بالبقاء لا یصحّ باعتبار الحركة التوسّطیة ـ الّتی عبّر عنها فی الكفایة بالقطعیة ـ ، وأمّا باعتبار الحركة القطعیة ـ الّتی عبّر عنها فی الكفایة بالتوسّطیة ـ وهی كون الشیء بین المبدأ والمنتهى یجوز اعتبار البقاء والشكّ فیه فبالنسبة إلى مثل النهار وإن لا یعتبر البقاء بالحركة التوسّطیة لا مانع باعتباره بالنسبة إلى الحركة القطعیة، فإنّ النهار واللیل باعتبار كون الحركة الواقعة فیهما تكون بین المبدأ والمنتهى یفرض أمر قارّ یوجد بمجرّد وجوده فی الآن الأوّل ویحكم ببقائه فی الآن الثانی وما بعده.

قلت: هذا، أی كون الشیء بین المبدأ والمنتهى،([3]) لا حقیقة له ولا منشأ لانتزاعه منه فی الخارج، بل لیس إلّا مجرّد الفرض ولیس فی البین إلّا كون الشـیء فی کلّ آن فی حدّ أو مكان ولا واقع لغیر ذلك، فالحركة القطعیة هی عین التوسّطیة.

ثم إنّه یمكن تصحیح ذلك بأن یقال: إنّ النهاریة تنتزع من صیرورة مواجهة الشمس مع الأرض وبهذا الاعتبار یصحّ الحكم بالبقاء، لأنّ الزمان الخاصّ المسمّى بالنهار یوجد بمجرّد تحقّق منشأ انتزاعه وهو سیر الشمس ودخولها فی قطعة خاصّة من الفضاء، فإذا شككنا فی بقائها فیها نحكم به بالاستصحاب، فهی بهذا الاعتبار بمنزلة الاُمور القارّة التدریجیة الّتی یقع الشكّ فی استمرارها.

وإن أبیت عن ذلك فنقول: إنّ بعد الدقّة فی الأخبار یحصل لنا أنّه لا یعتبر فی جواز الاستصحاب صدق بقاء المستصحب، بل المعتبر لیس إلّا صدق نقض الیقین بالشكّ

 

وهو متحقّق فی الشكّ فی مثل النهار واللیل، فإنّه وإن لا یتحقّق جزء منه إلّا بعد انصـرام جزئه السابق ولیس فی البین ما یحكم بالبقاء إلّا أنّ رفع الید عن النهاریة وعدم الحكم ببقائها عند العرف من نقض الیقین بالشكّ.

وبالجملة: یكفی فی الاستصحاب صدق عنوان النقض ولو لم یكن فی البین ما یصدق علیه البقاء، فالحكم یدور مدار صدق عنوان نقض الیقین بالشكّ لا البقاء فلیس فی الأخبار ما یدلّ على اعتبار صدق عنوان البقاء.([4])

ثم إنّه قد استشكل السیّد الاُستاذ فی المقیّد بالزمان مثل الصوم: بأنّ استصحاب نفس النهار وإن كان یجری ولكن لا یثبت كون الإمساك فی النهار.

وصاحب الكفایة اختار جریانه بتقریب: أنّ الإمساك قبل هذا الآن كان فی النهار وفی الآن الحاضر نشكّ فی كونه كذلك وواقعاً فی النهار فیحكم ببقائه وكونه فی النهار كما كان سابقاً فیه.

ولكن لا یستقیم ما أفاد لعدم اتّحاد القضیة المتیقّنة والمشكوكة، وذلك لأنّ الإمساك المطلوب فی جمیع النهار وإن كان إمساكاً واحداً إلّا أنّه بحسب آناء النهار یتبعّض بأبعاض كثیرة لیس الآن الّذی یشكّ فی كونه من آناء النهار والإمساك فیه وجوداً بقائیاً للآن السابق، فتدبّر([5]).

 

([1]) النراقی، مناهج الأحكام والاُصول، ص242 (الفائدة الاُولى من فوائد ذكرها ذیل تتمیم الاستصحاب).

([2]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص319.

([3]) وهی الحركة القطعیة حسب تعبیر سماحة الاُستاذ دام ظلّه، وتعریفات الجرجانی، والتوسّطیة حسب تعبیر الكفـایة وكثیر مـن الأعلام خـطأً.

([4]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة على كفایة الاُصول، ج2، ص 396 - 400.

([5]) الحجّتی البروجردی، الحاشیة على كفایة الاُصول، ج2، ص401 - 402.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: