شنبه: 1/ارد/1403 (السبت: 11/شوال/1445)

فصل
فی اشتراط حیاة المفتی

إعلم: أنّه لا خلاف بینهم فی جواز التقلید عن الحیّ بالنظر إلى نفس هذا الوصف، وإنّما وقع الخلاف بینهم فی جواز تقلید المیّت فی عرض تقلید الحیّ، فهل یجوز تقلید المیّت مع وجود المجتهد الحیّ؟ هناك صور نبحث عن کلّ منها على حدة.

الاُولى: إذا كان الحیّ والمیّت متساویین فی العلم متّفقین فی الفتوى، فربما یظهر من کلمـا ت بعضهم([1]) أنّ الحیاة شرط فی جواز التقلید كالإیمان، فلا یجوز تقلید المیّت وإن كان متساویاً مع الحیّ، بل وإن كان أعلم منه وكانا متّفقین فی الفتوى.

ولكنّ الإنصاف أنّه لا دلیل على ذلك، وأنّ ما یدلّ على إجزاء التقلید عن الحیّ یشمل التقلید عن المیّت المساوی له إذا كانا متوافقین فی الرأی.

الثانیة: إذا كانا متساویین فی العلم مختلفین فی الرأی، فمقتضى الأصل عدم إجزاء تقلید المیّت، وبقاؤه تحت حرمة العمل بغیر العلم، وتعیّن تقلید الحیّ لدوران الأمر بین التعیین والتخییر، فالمتعیّن هو تقلید الحیّ لعدم خلاف فی جوازه.

الثالثة: إذا كان المیّت أعلم من الحیّ وكانا مختلفین فی الرأی، فلا یخفى أنّ مقتـضى

 

الشكّ فی جواز تقلید المیّت والیقین بجواز تقلید الحیّ أیضاً تعیّن تقلید الحیّ، إلّا أنّه یمكن أن یمنع تحقّق الیقین بجواز تقلید الحیّ حینئذ، لمنع تحقّق الإجماع على جواز تقلید الحیّ حتى فی هذه الصورة، ولانصراف إطلاق ما یدلّ على وجوب التقلید المدّعی انصرافه إلى الحیّ عن هذه الصورة. فلو لم نقل بوجوب تقلید المیّت الأعلم فلا أقلّ من تردّد الأمر بین تعیّنه، أو التخییر بینه وبین تقلید الحیّ غیر الأعلم.

والّذی ینبغی أن یقال: إنّ من بنى على أنّ الأصل حرمة تقلید المیّت وإن كان أعلم وفتواه مخالفاً للحیّ لبنائه على تحقّق الإجماع على جواز تقلید الحیّ مطلقاً فهو، وإلّا فلو منعنا هذا الإطلاق وقلنا بعدم شمول الإجماع لهذه الصورة، ففی جانب جواز التقلید عن الحیّ غیر الأعلم أیضاً مقتضى الأصل حرمة تقلیده، فاللازم الخروج عن الأصل بالدلیل. والدلیل على جواز التقلید عن المیّت الأعلم هو:

إطلاق النقل وشموله لتقلید المیّت كالحیّ على حدّ سواء، المقیّد بما إذا كان الحیّ والمیّت متساویین أو الحیّ أفضل من المیّت.

والدلیل الثانی: عدم الفرق فی حكم العقل بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم بین العالم الحیّ والمیّت، سیّما إذا كان المیّت أعلم، لو لم نحكم برجحانه.

والدلیل الثالث: الأصل، وهو استصحاب جواز تقلیده فی حال حیاته بعد موته، وهذا یقرّر بوجهین: أحدهما: استصحاب جواز العمل برأیه السابق الّذی كان له فی حیاته بناءً على انعدام رأیه عند العرف بموته وعدم بقائه.

وثانیهما: استصحاب جواز العمل برأیه الباقی ببقاء نفسه الناطقة بعد موته.

وعلى هذا یكون المخرج من الأصل ـ الدالّ على حرمة تقلید المیّت ابتداءً إذا كان المیّت أعلم من الحیّ ومخالفاً معه فی الرأی ـ الاُمور الثلاثة:

 

أحدها: الإطلاق الدالّ على جواز التقلید، المقیّد بالإجماع على عدم جوازه إذا كان المیّت مساویاً للحیّ مخالفاً معه فی الفتوى.

وثانیها: عدم الفرق فی حكم العقل برجوع الجاهل إلى العالم بین الحیّ والمیّت، بل وحكمه برجحان الرجوع إلى الأعلم منهما إذا كانا مختلفین فی الرأی. ثالثها: الأصل.

واُجیب عن إطلاق النقل، بمنعه وظهور الروایات فی جواز الرجوع إلى الحیّ.

وعن دلیل العقل، باستقرار بناء العقلاء على الرجوع إلى الحیّ، ألا ترى أنّك إذا كنت مریضاً ترجع إلى الطبیب الحیّ ولا ترجع إلى كتب الأموات من الأطبّاء.

وعن الأصل، أمّا على التقریر الأوّل، فالجواب عنه: أنّه لابدّ من بقاء الرأی والاعتقاد، ولذا لو زال اعتقاده بجنون أو هرم أو تبدّل الرأی لا یجوز تقلیده قطعاً. وبعبارة اُخرى: الإجماع قائم على أنّ، جواز التقلید یدور مدار الرأی الموجود، فلا یكفی مجرّد حدوثه.

وعن التقریر الثانی: فإنّا وإن قلنا ببقاء موضوع الرأی وهو النفس الناطقة وعدم انعدامها بموت الجسد، إلّا أنّه عند العرف تنعدم النفس بموت الجسد، فلا یرى العرف لها بقاءً فضلاً عن رأیه.

بل یمكن أن یقال: إنّ بقاء الرأی على القول ببقاء النفس الناطقة أیضاً ممنوع، فإنّ الرأی إن كان ظنیّ الحصول، كأغلب آراء المجتهدین، فإن كان خلافاً للواقع یرتفع جزماً لكشف خلافه بعد الموت، وإن كان موافقاً للواقع فیزول الظنّ به وینقلب بالیقین، فهو مقطوع الارتفاع.

لا یقال: إنّ الفرق بین الظنّ والیقین بالشدّة والضعف.

فإنّه یقال: إنّ الظنّ ضدّ الیقین، فإنّ الظنّ عبارة عن الرجحان المحتمل خلافه، والیقین هو العقیدة الّتی لا تتحمّل احتمال خلافها.

 

وإن كان الرأی مقطوعاً به فهو مشكوك البقاء، لأنّ بقاءه یدور مدار كونه مطابقاً للواقع وهو مشكوك فیه، مضافاً إلى أنّه لو كان موافقاً للواقع لا وجه للتعبّد ببقائه فلا یجری فیه الاستصحاب، لأنّه التعبد ببقاء ما هو مشكوك البقاء، وعلى تقدیر مطابقة الرأی مع الواقع یكون بقاؤه مقطوعاً به لا مشكوكاً فیه.

ویمكن الجواب عمّا ذكر. أمّا عن منع الإطلاق، فلأنّه لا وجه لدعوى انـصراف الأدلّة إلى الحیّ وانصرافها عن المیّت، بعد ما نعلم أنّها لیست تأسیسیة وأنّ مفادها إمضائیة وإرشاد إلى ما یرشد إلیه العقل من رجوع الجاهل إلى العالم الّذی ربما یكون ما هو الوجه للرجوع إلى العالم أقوى فی الرجوع إلى المیّت من الرجوع إلی الحیّ.

وأمّا المثال بالطبیب والمریض، فقیاس مع الفارق، لأنّ المریض العالم بما هی الدواء للداء الفلانی من الطبیب المیّت الأعلم من الحیّ یرجع إلى الطبیب لتشخیص الداء والموضوع، لا لأخذ النسخة والدواء، كما هو واضح.

وأمّا الجواب عن ردّ الأصل ـ على التقریر الأوّل بزوال الرأی بالهرم والجنون وغیرهما ـ : عدم صحّة استصحاب جواز التقلید من الرأی الّذی كان له قبل ذلك، فلا یدلّ على عدم جواز استصحابه إذا زال الرأی بموت المجتهد. ولا ملازمة بین زوال الرأی بالهرم والجنون وبین زواله بالموت.

اللّهمّ إلّا أن یقال بأنّه لا وجه لعدم جواز التقلید من الرأی السابق إذا زال بالهرم أو الجنون إلّا زواله الّذی هو موجود فی موته، وحینئذ نمنع تحقّق الإجماع على عدم جواز التقلید من الرأی الزائل بالهرم والجنون أیضاً، كالموت.

وأمّا الجواب عن ردّ الاستصحاب على التقریر الثانی، فیمكن أن یقال: إنّه لا یتفاوت فی طریقیة الرأی الصادر عن المجتهد إلى الواقع حیاته ولا موته، ولا تنعدم هذه الطریقیة بموته، بل هو یوجد فی الخارج بحدوثه آناً مّا فی ذهن المجتهد فهو طریق

 

إلى الواقع، كان المجتهد حیّاً أو میّتاً أو ناسیاً أو غافلاً منه أو ذاكراً له، لا ینعدم أصلاً. وإن تبدّل إلى آخر فهو موجود فی عالم الآراء ینقل ویذكر عنه ویورد علیه ویستدلّ له. غایة ما یقال: إنّ طریقیته، وإن شئت قل حجّیته، تنتفی بتبدل رأیه، ولكن لا تنتفی بنسیانه أو بموت صاحب الرأی، فهو فی وعائه الخاصّ طریق إلى الواقع باقیة طریقیته لم تزل بعد.

ونتیجة ذلك کلّه: عدم نهوض ما یكون دلیلاً على عدم جواز التقلید عن المیّت الأعلم إذا كان رأیه مخالفاً لرأی الحیّ، بل الدلیل ناهض على وجوب تقلید المیّت الأعلم.

اللّهمّ إلّا أن یمنع وجوب تقلید الأعلم، سیّما إذا كان الأعلم میّتاً لاستقرار السیرة على تقلید الحیّ من دون فحص عن فتاوى الأموات.

ولكن غایة ذلك جواز تقلید الحیّ مطلقاً، لا عدم جواز تقلید المیّت مطلقاً وإن كان أعلم من الحیّ. إلّا أن یقال بأنّه بعد ذلك جواز تقلید المیّت مشكوكٌ فیه، لدعواهم الإجماع على عدمه، فیدور الأمر بین تعیّن تقلید الحیّ والتخییر بین تقلیده وتقلید المیّت، فالأحوط تقلید الحیّ.

هذا کلّه فی التقلید البدوی.

 

([1]) راجع: الشهید الثانی، مسالك الأفهام، ج1، ص127، فی الأمر بالمعروف والنهی عن المنكر؛ العلّامة الحلّی، قواعد الأحكام، ص119، كتاب الجهاد، فی المقصد الخامس.

موضوع: 
نويسنده: