پنجشنبه: 9/فرو/1403 (الخميس: 18/رمضان/1445)

عرض الدّین
على قادة الدّین

 

من جملة الطرق الرئیسیة لتحصیل الإیمان الثابت وتقویته، هی التأمّل فی الآیات الآفاقیة والأنفسیة، والتفكّر فی خلق السماوات والأرض ضمن مضامین القرآن المجید. كما أنّ مطالعة سیرة النبیّ الأكرم| والأئمّة المعصومین^ ومراجعة الأحادیث والروایات الواردة عنهم وخطبهم وأقوالهم فی مختلف المجالات العقائدیة مفیدة فی توسیع المعرفة ودلیلٌ للوصول إلى منبع عین الإیمان والیقین الصافیة.

وفی طیّات الكتب ـ كبحار الأنوار ـ كمٌّ هائل من الروایات والأحادیث الواردة عنهم^ فی العقائد، ما یُغنی عن الرجوع إلی الآخرین وطَرْق أبوابهم.

ومن جملة الطرق الّتی یمكن بها معرفة العقائد ومطابقتها للوحی وهدی القرآن الكریم وتعلیمات الرسول الأعظم وأهل بیته الطاهرین^ والّتی تؤدّی إلى الاطمئنان وسكون القلب أكثر فأكثر،

 

هو «عَرضُ الدّین» على قادة الدین، وخاصّة فی تفصیلات المسائل العقائدیة الّتی ینحصـر إثباتها بطریق الوحی وأخبار الرسول الأعظم وأهل بیته^ ولا طریق لمعرفتها إلّا بالرجوع إلى المدارك الصحیحة السماعیة من الكتاب والسنّة.

فمثلاً، فی تفاصیل الثواب والجزاء، وهل أنّه روحانی أو جسمانی أم أنّه بکلیهما؟ أو فی تفصیلات المیزان والصراط ووجود الملائكة والحقائق؟ واُمور كثیرة اُخری من هذا القبیل، یعتبر المرجع الوحید المصون من الاشتباه هو رسول الله‏ والأئمّة الطاهرون^.

لا یخفى، أنّ الشرع والعقل یتّفقان فی أصل بعض العقائد، كما أنّ الحاكم فی اُصول العقائد هو العقل، والقرآن الكریم ساق الإنسان وأرجعه إلی العقل وأمر الناس باتّباع العقل فیها، ولكن فی التفصیلات والاعتقادات الاُخری ـ غیر الاُصول ـ لابدّ من مراجعة الشـرع، ومن ثمَّ نجد أنّه لا طریق للعقل فی معرفة تلك الاُمور، أو أنّ الإنسان غیر مکلّف بمعرفة تلك الاُمور، بملاحظة أنّ بعض الاُمور والمطالب الاعتقادیة لیست من المستقلّات العقلیة والأوَّلیّات البدیهیة والفطریة، ولذا لا تكون نتائج البحث العقلی فیها مصونةً من الاشتباه والخلط، وبلحاظ غموض فهمها ودركها من قبل أغلب الناس أو جمیعهم،

 

سیكون التکلیف بمعرفتها تکلیفاً بما لا یطاق. ومن هنا نُهی الناس عن تحصیل الاعتقاد بها عن طریق العقل؛ لاحتمال الوقوع فی الضلالة، وحینئذٍ یكتفى بالدلیل السماعی الّذی ثبت جواز الاعتماد علیه عقلاً، فلا یكون الإنسان معذوراً فیما إذا وقع فی الضلالة نتیجةَ سلوكه طریق العقل لمعرفة تلك الاُمور.

وكما نعلم أنّ الكثیر من المواضیع الّتی تبحث فی الفلسفة والکلام وما یصطلح علیه بالعرفان، والّتی ترتبط بالإلهیّات هی من هذا القبیل.

والحاصل: أنّ المرجع الوحید المصون من الخطأ والاشتباه فی مثل هذه المسائل هو الشرع، وأنّ اُولئك الّذین یسلكون طریقاً آخر لمعرفتها، والّذین یُأوّلون الكتاب والسنّة بما یوافق استنتاجاتهم العقلیة، یكونون قد سلكوا طریقاً خطراً، یطوون به الظلمات بلا دلیلٍ ومرشدٍ من الكتاب والسنّة، وأنّ هذا الطریق لن یوصلهم إلّا إلی الحَیرة والتشكیك والتردید.

وأنّك لن تجدَ تعارضاً أبداً بین الاستنتاج العقلی فی الموارد الّتی یجوز لنا اتّباع المسلك العقلی لمعرفتها، وبین الأدلّة القطعیة من القرآن والسنّة القطعیة الصدور، ولو فرض ووجد مثل هذا التعارض، فإنّ الفهم القطعی العقلی سیكون قرینةً قطعیةً عقلیةً على عدم إرادة ظاهر الکلام،

 

وهذا الحكم العقلی سیكون قرینةً على المجازیة، وسیكون الحاكم هو قاعدة «إذا تعذّرت الحقیقة فأقرب المجازات هو المتعیَّن».([1])

وأمّا فی غیر هذه المباحث، إذا تعارض الاستنتاج العقلی مع دلالة الكتاب والسنّة، ووقع الشخص فی الاشتباه، فلا یكون معذوراً لأنّه منهیٌّ من البدایة عن الورود فی هذا الطریق.

وكمثال لما ذكرنا نقول: نحن ومن خلال الآیات القرآنیة الكثیرة والأحادیث الشریفة، نفهم بالقطع والیقین أنّ الخالق هو غیر المخلوق، ولا یوجد أیُّ قدر مشترك ذاتیّ أو حقیقی بینهما، ﴿لَیْسَ كَمِثْلِهِ شَیْ‏ءٌ﴾،([2]) وهذه الحقیقة لا یمكن تطبیقها على بعض المسالك العرفانیة أو الفلسفیة المبتنیة على أصالة الوجود، أو القول بأن کلّ شیء هو الله‏ تعالى.

أو تشبیه الخلق والخالق بالموج والبحر والحبر والحروف، أو الاصطلاحات والتشبیهات الاُخری، وصرف النظر عن واقعیة کلّ عالم الكون الّذی تعرّض له القرآن الكریم وأخبر عن واقعیته کُلّا وأجزاءاً، فمن غیر المعقول القول بأنّ کلّ هذه السماوات والمجرّات

 

والمنظومات والجبال والبحار والمخلوقات اللامتناهیة الّتی یتركّب الإنسان نفسه وكذا الحیوانات الاُخری من الملیارات منها، غیرُ متحقّقةٍ واقعاً، وأنّ کلّ ما هو موجود هو الوجود المطلق وظهوراته فقط، أو مطلق الوجود ومراتبه فقط، وأنّه لا شیءَ حقیقیّاً فی العالم إلّا نفس الوجود ولو وجد اختلاف فهو فی المراتب فقط.

وحتى لو قلنا بأنّ وجود الأشیاء غیرُ وجود الحقِّ، وأنّ کلَّ شیء هو غیر وجود الأشیاء الاُخری، لكن قلنا بالاشتراك المعنوی واعتبرنا أنّ كُنه الحقّ وكُنه الأشیاء الاُخری واحدٌ بهذا المعنى، وادَّعینا معرفتها، وأنّه یُطلق على الجمیع بنحو التشكیك «الوجود» فهذا المسلك مخالف للكتاب والسنّة والاعتقادات الشرعیة وغیر منسجم معها.

فما نفهمه من ظاهر الكتاب الكریم هو شیئیة الأشیاء کلّها وواقعیّتها وتحقّقها الخارجی، ومغایرة الذات الإلهیة المقدّسة لها وتنزّهها عن المشابهة معها.

وكذلك فی مسألة ربط الحادث بالقدیم، والّتی إذا لم یكن الکلام فیها منهیّاً عنه، فإنّه بلا شكّ غیرُ مأمورٍ به، فإذا وصل البحث إلی حیث القول: أنّ الله‏ عاجز ـ نعوذ بالله‏ ـ عن خلق غیر ما هو موجود، وأنّ صدور العالم والكائنات عنه بالإیجاب، وأنّه لا إبداع فی ما یسمّى بعالم العقول والمجرّدات، وأنّ العالم عبارة عن تشكیلات میكانیكیة، فكما أنّ

 

المخترع البشری أو الصانع الّذی هو اُستاذ فی صنعته فقط ویمكنه أن یصنع ما هو ماهرٌ فی صنعه فقط، فكذلك فی خلق الكائنات، فلا یمكن أن یترك هذا النحو من الخلق ـ نعوذ بالله‏ ـ وأنّه عاجز عن خلق خلقٍ آخر، إذا وصل الکلام إلی مثل هذه النظریات أو ما یقاربها، ویُشابهها ـ حتى لو لم یقَلْ بهذه الصـراحة ـ فإنّه مخالف لظواهر القرآن المقبولة والمسلَّمة، ومنافٍ لها.

فقولنا: إنّ هذا العالم قد اُوجد طبقاً لحكمةٍ ومصلحة وإنّ الله‏ أحسن الخالقین وإنّه حكیم علیم، هو غیر ما یقوله هؤلاء من أنّ برنامج الإیجاد والخلق لا یمكن أن یكون إلّا بهذه السلسلة ـ الّتی یدّعیها هؤلاء ـ وأنّ النظام الأتمّ هو النظام القائم على أساس الصادر الأوّل للمعلول الأوّل و... إلخ، وأنّه بدون الصادر الأوّل للمعلول الأوّل والعقل الأوّل وغیره ممّا یقولون، یكون الله‏ عاجزاً ـ والعیاذ بالله‏ ـ عن خلق عالم المحسوسات بدون وسائط، وسلسلة عوامل یفترضها هؤلاء.

فهذه الآراء لا یمكن مطابقتها للقرآن الكریم أبداً، فإنّ مفهومها هو ادّعاء عجز الله‏ عزّ وجلّ، وإثبات عوالم ومخلوقات ونظم ﴿مَا أَنْزَلَ اللّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾.([3])

 

وبحسب ما جاء فی الكتاب والسنّة، فإنّ الله‏ هو الخالق، ومفهوم هذا القول لا یساوی مفهوم أنّ الله‏ علّة وأنّه علَّة اُولى.

والخوض فی مثل هذه المباحث قد یجرُّ إلی القول بقدم العالم، وقد ذهب البعض إلی أنّ إجماع المسلمین قائم على أنّ هذا القول یوجب الكُفر.

وقد اعترض العالم المتبحّر الملّا محمّد إسماعیل الخاجوئی & فی رسالة له، فی تفسیر قوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾،([4]) على أحد كبار أساتذة الحكمة ـ حیث قال: «إنّ اسم «الماء» قد اُطلق فی كثیر من الموارد فی الكتاب والحدیث على العلم والعقل القدسیّ الّذی یحمل العلم، وأنّ اسم «الأرض» قد اُطلق على النفس المجرَّدة القابلة للعلوم والمعارف» ـ بأنّ هذا الحمل هو حمل اللفظ على غیر ظاهره، ولا شاهد من الكتاب والسنّة والعقل على مثل هذا الحمل، كما أنّه لا  قائل به من المفسّـرین والمحدِّثین، وأنّ هذه التأویلات هی من قبیل التعبیر عن السماء بالحبل.

ثم یبسط الخاجوئی اعتراضه ویقول: کلّ من یقول بوجود العقل المجرّد ذاتاً وفعلاً، فهو قائل بقدمه، وهذا یستلزم القول بقدم العالم، ومن قال بقدم ما سوى الله‏ تعالى فهو كافرٌ بإجماع المسلمین حتى لو کان من الإمامیة.

 

وكما قال آیة الله‏ العلّامة فی جواب من سأله عن حال رجل یعتقد بالتوحید والعدل والنبوّة والإمامة، لكنّه قائل بقدم العالم، وعن حكمه فی الدنیا والآخرة، قال العلّامة:

«مَنْ اعتقد قِدَم العالم فَهُو كافرٌ بلا خلاف، لأنّ الفارق بینَ المسلم والكافر ذلك، وحكمه فی الآخرة حكم باقی الكفّار بالإجماع».([5])

والحاصل: أنّنا وإن لم نكن فی مقام ردّ وإبطال وإثبات بعض آخر منها وبعض الآراء والأفكار ولا فی مقام بیان الحكم الفقهی لمعتقدی تلك الآراء، ولكن نقول: بأنّ طَرْق هذه المباحث ـ حتى لو تصوّر القائلون بها أنّهم غیر ملتزمین بتبنّی القول بالحدوث الدهری أو الزمان التقدیری وتبعاته ـ والبحث فیها لیس لازماً، لا شرعاً ولا عقلاً، وأنّه خطیر، ولا ضمان بالخروج بنتیجة صحیحة منها حتى من قِبل أساطین الحكمة والفلسفة، وإن انحرف فی نقطةٍ ومورد واحد، وضلَّ ضلالة بسیطة.

وهنا نبیِّن هذا المعنى بذكر عدّة جُمَل من خطبة أمیر المؤمنین× الرائعة المعروفة بخطبة الأشباح، والّتی یقول عنها السیّد الرضیّ ـ علیه الرحمة ـ: إنّها من جلائل خطبه×، لیتّضح هذا المطلب العرفانیّ الدقیق، بل

 

هو من أعلى المطالب العرفانیة الصادرة عن لسان الله‏ الناطق وأمیر البیان×.

روى مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق×: «أنّ أمیر المؤمنین× أنشأ هذه الخطبة على منبر الكوفة بعد أن سأله رجل قائلاً: یا أمیرَ المُؤمنین! صِفْ لَنا ربَّنا مِثْلَمَا نَراهُ عَیَاناً لِنَزْدادَ لَهُ حُبّاً وبِهِ مَعْرِفَةً، فغضب علیٌّ× ودعا الناس للصلاة جامعة، ولمـّا اجتمع المسلمون وغصَّ المسجد بالمصلّین، صعد علیّ× المنبر ولم یزل على غضبه...».

وهنا، یطرح هذا السؤال نفسه، لماذا غضب الإمام علیّ× من مثل هذا السؤال؟

یبدو أنّ كیفیّة طرح هذا السؤال هی الّتی أثارت غَضَب علیّ× حیث إنّ السائل کان یظنّ إمكانیة توصیف الباری عزّ وجلّ بدرجة من الوضوح یتمكّن عامّة الناس من معرفة كُنه حقیقته وصفاته، كما لو کان یُشاهَد عیاناً، أو أنّ عبداً من عباده وإن کان رئیس العارفین ومولى الموحّدین یمكنه حَدُّ صفاته أو معرفة حقیقة ذاته وتوضیحها وتبسیطها لدرجة التصوّر ولو کان تقریبیّاً، ومهما كان ظنّ السائل، فإنّ مجرّد التفكیر فی مثل ذلك یثیر غضب أمیر المؤمنین× حیث إنّه× استعظم نفس السؤال، فكان علیّ× یرى أنّه لیس لأحدٍ الحقّ مهما عَلَت معرفته أن یسأل مثل هذا السؤال فضلاً عن أن یكون لأحدٍ الحقّ فی وصف الباری

 

عزّ وجلّ إلی درجةٍ أكبر ممّا وصف هو نفسه به تبارك وتعالى.

وهذا هو الّذی دعاه إلی أن یصعد المنبر ویخطب تلك الخطبة الّتی افتتحها بالحمد والثناء ثمّ الصلوات على النبیّ محمد| حتى توجّه بخطابه إلی السائل قائلاً:

«فَانْظُر أَیُّهَا السائِلُ، فَما دَلَّكَ القُرْآنُ علیه مِن صفتِه فَائْتَمَّ بِهِ وَاسْتَضِـئْ بنورِ هدایتِهِ، وما کلّفكَ الشیطانُ عِلمَه ممّا لیسَ علیكَ فی الكتابِ فَرْضُهُ ولا فی سنَّة النبیّ صلّى الله‏ علیه وآله وأئمّةِ الْـهُدَى أثَرُهُ فکِلْ عِلمَه إلی الله‏ سبحانه، فإنَّ ذلكَ منتَهى حقِّ الله‏ علیكَ. واعلَم أنّ الرّاسخینَ فی العلمِ هُمُ الّذینَ أغناهُم عن اقتِحامِ السُّدَدِ الْـمَضْـرُوبَةِ دونَ الْغُیوبِ، الإقرار بجملةِ ما جَهِلوا تفسیرَه مِن الغیبِ المحجوبِ، فمَدَح الله‏ تعالى اعترافهم بالعَجْز عن تَناولِ ما لَمْ یُحیطوا به علماً. وسَمّى تَركَهم التَّعمُّقَ فیما لم یُکلّفهم البحثَ عن كُنهه رُسوخاً. فاقتصِـر على ذلك، ولا تُقدِّرْ عظَمَةَ الله‏ سبحانه على قدرِ عقلِكَ فتكونَ من الهالِكینَ...».([6])

 

وهذا الکلام الإعجازی لأمیر المؤمنین× هو أفضل دلیل ومرشدٍ وأعلى مرتبة من المعرفة الممكنة للملائكة والإنسان، وکلّ ما عدا ما قاله أمیر المؤمنین× وکلّ ما كتب خارج حدود هذه الخطبة، فهو غرور والتباس عقلی، أو هی مجرّد کلمات واصطلاحات وألفاظ.

یقول الشیخ الأجلّ، فخر الشیعة وعالم الإسلام الكبیر، الشیخ المفید& فی مسألة توقیفیة الأسماء الحُسنى:

«لا یجوز تسمیة الباری تعالى إلّا بما سمّى به نفسه فی كتابه أو على لسان نبیِّه أو سمّاه حججه من خلفاء نبیِّه وكذلك أقول فی الصفات، وبهذا تطابَقت الأخبار عن آل محمد^ وهو مذهبُ جماعة الإمامیّة و....».([7])

وقال المحقّق القدّوسی الطوسی& فی كتاب الفصول،([8]) وهو مصنّف باللغة الفارسیة، قال ما ترجمته:

لطیفة: بعد أن علمنا أنّ الباری سبحانه وتعالى ذاتٌ واحدةٌ منزّهةٌ، لا مجال للتعدّد والتكثّر فی كبریاء عظمته من أیِّ جهة کانت، أطلق على نفسه لفظ «الله» بلا ملاحظة أیّ إضافة، وأطلق الأسماء الحسنى الاُخری باعتبار الإضافات أو بحسب تركّب الإضافة والسلب، كالحیّ والعزیز

 

والواسع والرحیم. وعلیه: فکلّ لفظ لائقٍ بجلاله وكماله، یمكن إطلاقه علیه، إلّا أنّه من غیر الأدب إطلاق الأسماء الّتی لم تصدر الإجازة من حضرته لإطلاقها علیه، إذ لعلَّه لا یلیق بمقامه من جهة اُخرى؛ لأنّ ظاهر الحال یقتضی أنّه إذا لم یكن قد تلطّف برأفته وعنایته اللامتناهیة وألهَمَ أنبیاءه والمقرّبین من عباده، لما کان لأحدٍ اللیاقة بإطلاق أیِّ لفظٍ على حقیقته، إذ لا یمكن بأیّ وجه مطابقة الاسم على المسمّى.

وبحسب بعض الآیات مثل قوله تعالى: ﴿یَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى‏﴾؛([9]) وقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُواأَنَّ اللّٰهِ بِكُلِّ شَیْ‏ءٍ عَلیمٌ﴾؛([10]) فإنّ الشیء المعلوم هو غیر العالم، وبحسب بعض المسالك أنّه لا یوجد شیءٌ غیرُ علم الله‏ بذاته ومراتب ظهور وجوده.

وأمّا البحث فی حقیقة العلم وكیفیّته وماهیّته، فإنّنا إذا كنّا مجازین فی البحث عن حقیقة علمنا نحن وماهیّته، والوصول إلی الآراء المختلفة فیه، لكنّنا ممنوعون عن البحث فی حقیقة علم الله‏ الّذی هو عین ذاته، إذْ لا یمكن لنا درك حقیقة علمه: ﴿وَلَا یُحِیطُونَ بِهِ عِلْماً﴾.([11])

 

إذن، فلسان الكتاب العزیز والسنّة الشـریفة ومفهوم الاصطلاحات الإسلامیة والأسماء الحسنى الّتی یُسمع بإطلاقها على ذات الباری تعالى، هی غیر مفهوم الاصطلاحات الاُخری الّتی راج إطلاقها علیه، والّتی ظهرت بعد ظهور الفلسفة والعرفان الاصطلاحی واشتغال المسلمین بهذه المباحث ورواجها، والّتی  حجبتهم عن السیر العلمی الإسلامی الخاصّ، وعن التفكیر فی الآیات الإلهیة الّتی اُمروا بالبحث فیها.

فلابدّ من معرفة الله‏ بالطریق الّذی عرَّفَ نفسه به وهو طریق الوحی ورسالات الأنبیاء والكتاب والسنّة والسبل المنطقیة القرآنیة، ویستحیل معرفته بغیر هذا الطریق، وینبغی عدم التقدّم على هذه الإرشادات كما ینبغی عدم التأخّر والابتعاد عنها.

إنّ معرفة الله‏ فی القرآن المجید وفی أحادیث العرض، عریضة وشاملة، بل هی غیر متناهیة، کلّما سار الإنسان فی إطار الإرشادات القرآنیة والأحادیث الشریفة وتقدّم فیها، فإنّه سیبقى المجال أمام سیره وعروجه مفتوحاً على مصراعیه.

ولابدّ من طَرْق باب أهل بیت الوحی^ والالتزام باتّباعهم، وأخذ الاصطلاحات المطابقة للواقع عنهم، وتوسعة المعرفة بالتفكّر والعبادة والدعاء والریاضات الشرعیة.

 

وهناك فی الأدعیة المأثورة عن الرسول الأكرم| وأمیر المؤمنین× وسائر الأئمّة الأطهار^، من العبائر والجمل ما یفتح أبواباً إلی طریق المعرفة.

ففی الوقت الّذی تتضمّن فیه تلك الأدعیة مضامین عالیة وعرفانیة حقیقیة، فهی أیضاً کانت ترشد اُولئك المسلمین من سكنة الصحاری والبوادی الّذین لم یتتلمذوا فی مدرسةٍ مّا، ولم یقرأوا «الشفاء» و«النجاة» و«الإشارات» و«الأسفار» و«الفصوص» وجعلت منهم مؤمنین إلی مرتبة لم یحلم بمثلها أمثال ابن سینا والفارابی.

فلو أنّنا اشتغلنا بقراءة تلك الأدعیة وشرحها وتفسیرها بدلاً من تلك الكتب، لفهمنا بأنّنا مع ما نملك من هذه المعارف والآثار، لا ینبغی أن نذهب إلی غیرها وننسى حدیث: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَیّاً لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِی‏».([12])

فکلامنا هنا هو أنّ علینا أن نعرض عقائدنا على القرآن الكریم وعلى الأحادیث الصحیحة وعلى حملة هذین المصدرین الأساسیّین، أمثال «زكریّا بن آدم» الّذی قال فیه الإمام الرضا× :«الـمَأمونُ على الدّین

 

والدُّنیا»،([13]) والشیخ الطوسی والمجلسـی، لیشهد هؤلاء على أنّ الدین الّذی عُرض علیهم، دینٌ موافق لما أنزله الله‏ تعالى على نبیّه الأكرم|، وأن یقولوا:

«هذا دینُ الله‏ الّذی أنزلَه على نبیّه صلّى الله‏ علیه وآله وبلَّغه عنهُ أوصیاؤهُ».

إنّ اُولئك الّذین أمضَوا أعمارهم فی طیّ الطرق الاُخری، واشتغلوا بغیر ما ورد عن مدرسة أهل البیت^، سیذعنون بأنّه لا یمكن نسبة محصول ونتائج بعض الاشتغالات والبحوث إلی الله‏ والنبیّ الأكرم|، فمدرسة الأنبیاء ومدرسة القرآن والوحی والإمام الباقر والصادق÷ یعرفها زرارة وأبان بن تغلب ومحمد بن مسلم وعمّار بن یاسر والأصبغ بن نباتة وحذیفة وأبو ذر وأمثالهم، لا الآخرون.

فلم نعهد ولم نسمع یوماً أنّ شخصاً ذهب إلی مثل یعقوب بن إسحاق الكندی وعرض علیه دینه، فأمثال یعقوب بن إسحاق وسائر الفلاسفة والعُرفاء الاصطلاحیّین، هم أنفسهم إذا أرادوا عرض دینهم، کان علیهم عرضه على النبیّ| والأئمّة^ ورواة أحادیثهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

([1]) السبزواری، ذخیرة المعاد، ج1، ص3؛ النجفی، جواهر الکلام، ج2، ص297؛ الخراسانی، کفایة الاُصول، ص390.

([2]) الشورى، 11.

([3]) یوسف، 40؛ النجم، 23.

([4]) هود، 7.

([5]) العلّامة الحلّی، أجوبة المسائل المهنّائیّة، ص88 ـ 89؛ راجع أیضاً: المجلسـی، بحار الأنوار، ج54، ص247.

([6]) نهج البلاغة، الخطبة 91 (ج1، ص160 ـ 181)؛ راجع: العیّاشی، تفسیر، ج1،ص163؛ المجلسی، بحار الأنوار، ج56، ص106 ـ 114.

([7]) المفید، أوائل المقالات، ص53 .

([8]) الخواجة نصیر الدین الطوسی، الفصول، ص22.

([9]) الرعد، 8 .

([10]) البقرة، 231.

([11]) طه، 110.

([12]) راجع: ابن أبی شیبة الکوفی، المصنّف،  ج6، ص228؛ الفخر الرازی، المحصول، ج3، ص267؛ ابن أبی جمهور الأحسائی، عوالی اللئالی، ج4، ص121؛ المقریزی، إمتاع الأسماع، ج2، ص360؛ المجلسی، بحار الأنوار، ج30، ص361.

([13]) المفید، الاختصاص، ص87؛ الطوسی، اختیار معرفة الرجال، ج2، ص858؛ العلّامة الحلّی، خلاصة الأقوال، ص150 ـ 151؛ الأردبیلی، جامع الرواة، ج1، ص330؛ الحرّ العاملی، الفصول المهمّة، ج1، ص590؛ الحسینی التفرشی، نقد الرجال، ج2، ص262.

نويسنده: