جمعه: 7/ارد/1403 (الجمعة: 17/شوال/1445)

 

لقد كثرت كلمات العلماء حول رجال هذه الأحادیث ومتونها، وتعارض بعضها مع بعض، وشرح ألفاظها، وتعیین الفرقة الناجیة، فأنكر بعضهم صحّتها،([1])وقد أخرجها السیوطی فی الجامع الصغیر وصحّحها ولم یذكر الناجیة والهالكة،([2]) وعلّل بعضهم ما فی أسانیده محمد بن عمرو اللیثی، وعبّاد بن یوسف، وراشد بن سعد، وولید بن مسلم، وبعض المجاهیل.

واختلفوا فی أنّ المراد بالاُمّة هل هی اُمّة الدعوة أم اُمّة الإجابة؟ وفی اختصاص الاختلاف باُصول الفرق دون فروعها، كما اختلفوا فی العدد المأثور، وأنّ العدد لمجرّد التكثیر، أو أنّ العدد لا مفهوم له، فلا مانع من الزیادة على العدد المأثور وإن لم یجز النقص، أو أنّ المقصود اُصول الفرق دون فروعها.

 

وقال الكوثری: إنّ تشعّب الفرقة لا ینتهی إلى انتهاء تاریخ البشر، فلا یصحّ قصر العدد على فرق دون فرق، ولا على قرن دون قرن؛ لاستمرار ابتكار أهواء وتلفیق آراء مدّة دوام الحیاة البشریة فی هذا العالم، فالكلام فی الفرق من غیر تقیُّد بعددٍ هو الأبعد عن التحكم، وهو الّذی لا یكون مَدعاةً لهُزءِ الهازئین من غیر أهل هذا الدین.([3])

واختلفوا فی تعداد الفرق وتفصیل معتقداتهم، وقد وقعوا فی اشتباهات وجهالات فی هذا المقام، وقالوا عن الشیعة وغیرهم ما یدلّ على جهلهم بأوضح المطالب التاریخیة والكلامیة ممّا لیس هنا محلّ ذكره. واخترعوا مذاهب وفرقاً لم تخرج بعدُ إلى عالَم الوجود، فراجع الفصل لابن حزم، و الملل والنحل للشهرستانی، و التبصیر لأبی المظفّر الإسفَراینی وغیرها.

فلا ینبغی الاستناد فی نقل مذهب أیّ فرقة من فرق المسلمین على مثل هذه الكتب الملیئة بالخرافات والجهالات، وما فیه شَین للإسلام والمسلمین، والجامعة بین الغثّ والسمین، والصحیح والسقیم، وأعاجیب الأكاذیب، وإن شئت أن تكتب عن طائفة أو شخص من المسلمین وغیرهم فلا تَعْزُ إلى شخص ولا فرقة من الفرق إلّا ما سجِّل

 

فی كتبهم المعتمدة ومؤلّفاتهم المعتبرة، ولا تلزم أحداً منهم بلازم قوله إلّا إذا كان لازمه لزوماً بیّناً.

واستشكلوا أیضاً فی كفر هذه الفرق ما عدا واحدة منها، فعن الشاطبی: أهل السّنة لا یكفِّرون كلَّ مبتدع، بل یقولون بإیمان أكثر الطوائف الّتی فسَّروا بها الفرق، ورجّح أنّ الحكم بكون هذه الفرق فی النار ما عدا الجماعة الملتزمة لِـمـا كان علیه(ص) هو وأصحابه لا یقتضی أنّها كلّها خالدة خلود الكفّار، فجوّز أن یكون منها من یُعذّب على البدعة والمعصیة، ولا یخلد فی العذاب خلود الكفّار المشركین، أو الجاحدین لبعض ما علم من الدین بالضرورة.([4])

فهذه الروایة لو لم نقل بدلالتها على كون جمیع الفرق مسلمة ومعدودة من الاُمّة، لا تدلّ على كفر الجمیع إلّا الواحدة. نعم قد دلّ بعضها على دخول الجمیع فی النار ماعدا الواحدة منها.([5])

ومن أعظم ما وقع الاختلاف فیه فی هذه الأحادیث، تعیین الفرقة الناجیة، والّتی تكون على ما كان علیه النبیّ(ص) وأصحابه، على ما فی بعض طرقه.

 

قال الشیخ محمد عبده، مفتی الدیار المصریة سابقاً: وأمّا تعیین أیّ فرقة هی الناجیة ـ أی الّتی تكون على ما كان النبیّ علیه وأصحابه ـ فلم یتعیّن لی إلى الآن، فإنّ كلّ طائفة ممّن یذعن لنبیّنا بالرسالة تجعل نفسها على ما كان علیه النبیّ وأصحابه... إلى أن قال: وممّا یسرّنی ما جاء فی حدیث آخر: أنّ الهالك منهم واحدة.([6])

فهذا فهرس موارد الاختلاف فی هذا الحدیث من حیث السند والمتن والدلالة، ولا یخفى علیك أنّ تعیین الفرقة الّتی تكون على ما كان علیه النبیّ(ص) وأصحابه، والجماعة الملتزمة لِمـا كانوا علیه لا یثبت بنفس هذه الأحادیث، بل لابدّ من الرجوع إلى غیرها من الروایات والآثار والأدلّة العقلیة، مضافاً إلى أنّ أخبار «الجماعة» مطعون فیها من حیث السند؛ لاشتماله على مثل أزهر بن عبد الله الناصبی، وعبّاد بن یوسف، وراشد بن سعد، وهشام بن عمّار، وولید بن مسلم، و عن الزوائد: «إسناد حدیث عوف بن مالك فیه مقال»،([7]) ولیس ببعید أن تكون زیادة «وهی الجماعة» من بعض الرجال، ففسَّر الحدیث وبیّن معناه على وفق رأیه وما هو الصواب عنده، ویؤیّده أنّ الدارمی خرّج هذا الحدیث ولم یذكر هذه

 

الزیادة،([8]) وحدیث أنس ـ مضافاً إلى ما فی سنده أیضاً ـ معارض بحدیثه الآخر، فإنّ لفظ الحدیث فی بعض طرقه: «كُلُّهَا فِی النَّارِ، إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِیَ الْـجَمَاعَةُ»،([9]) وفی بعضها: قِیلَ: یَا رَسُولَ الله، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «مَا أَنَا عَلَیهِ وَأَصْحَابِی».([10])

فالاغترار بهذه الزیادات ـ مع هذه المعارضات فی نفس هذه الأحادیث، وابتلائها بالمعارضات الخارجیة ـ  بعید عن الصواب، ویؤیّد زیادة جملة «وأصحابی» بعد قوله(ص): «ما أنا علیه» فی بعض متون هذه الأحادیث، وزیادة كلمة «الجماعة» فی البعض الآخر عدمُ استقامة مفادهما.

أمّا الأوّل فلأنّه إنّما نجا مَن نجا وینجو من هذه الاُمّة بسبب كونه على ما علیه النبیّ(ص)، ولا عبرة بكونه على ما علیه غیره كائناً من كان، وإن كان من أهل النجاة؛ لأنّه أیضاً إنّما نجا بكونه على ما علیه النبیّ(ص)، فما معنى قوله: «وأصحابی؟» وإن كان المراد الكون على ما هو علیه مدّة بقائه فی هذه الدنیا، وعلى ما علیه أصحابه بعد ارتحاله، فهذا أیضاً لا یستقیم؛ لأنّه لا شكّ فی وجود المنافقین فی الصحابة، كما دلّت علیه

 

آیات كثیرة، كما لا شكّ فی ارتداد كثیر منهم، كما دلّت علیه أحادیث الحوض المتواترة وغیرها.

ولأنّه إذا كان المیزان قبل ارتحاله الكون على ما هو علیه، وبعد ارتحاله الكون على ما علیه الصحابة فما هو المیزان بعد عصر الصحابة؟

مضافاً إلى أنّه كیف یمكن الكون على ما علیه الصحابة مع ما حدث بینهم من الاختلاف، حتى ضرب بعضهم بعضاً، ولعن بعضهم بعضاً، ووقع بینهم ما وقع؟! هذا، ولا أظنُّ بأحد من المسلمین القول بأنّ میزان النجاة الكونُ على ما علیه النبیّ(ص) وأصحابه، بمعنى عدم الكون على ما علیه(ص) موجباً للنجاة إلّا إذا انضمّ إلیه الكون على ما علیه الأصحاب.

إذن فما یقول هؤلاء فی نجاة النبیّ(ص)؟ فهل هی أیضاً متوقّفة عندهم على كونه على ما كان علیه أصحابه؟ ! نعوذ بالله من جرأتهم على الله ورسوله، ومن زیاداتهم واختلاقاتهم فی الأحادیث حبّاً للبعض وبغضاً لأهل بیت العترة الطاهرة، ولأن یثبتوا باختلاقهم الأحادیث وإدخال الزیادات فیها لغیر أهل البیت محناً لا یقاس بهم ما یشابه فضائلهم، ولكنّ الله علیم بذات الصدور، یُظهر أكاذیبهم ومفتعلاتهم.

وأمّا الثانی ـ وهو زیادة «الجماعة» ـ فالدلیل على أنّها زیادة لا یعتدّ بها ـ

 

سیّما مع عدم ذكرها فی سائر المتون ـ؛ أنّ المراد منها إن كان ما علیه جمیع الاُمَّة فهو خلاف المفروض فی الحدیث من افتراق الاُمّة، وإن كان ما علیه السّواد الأعظم والأكثریة فكیف صار الكون منها أبداً موجباً للنجاة؟ فهذه سیّدة نساء أهل الجنّة، حبیبة رسول الله(ص) كانت تعتقد بعدم شرعیة ولایة أبی بكر،([11]) وماتت وهی واجدة علیه، وأهل السنّة یدَّعون أنّ الجماعة كانت تذهب إلى شرعیة ولایته، مع أنّك تجد فی الاُمّة فرقاً كثیرة أعظمها شیعة أهل البیت على عقیدة سیّدتنا فاطمة الزهراء(س)، ولا تجد فیها فرقةً ولا واحداً یشكُّ فی كونها من أهل النجاة، وأنّها سیّدة نساء العالمین، بل هذا دلیل على عدم صحّة زیادة «وأصحابی» أیضاً؛ لأنّ عقیدتها تفترق عن عقیدة جمع من الصحابة من حزب أبی بكر وعمر بن الخطّاب.

اللّهمّ وإن قیل بإرادة جمیع الصحابة من قوله(ص): «وأصحابی»، وعلیه یكون المراد: أنّ أهل النجاة مَن یقول بقول جمیع الصحابة،

 

ویأخذ بما اتّفقوا علیه كلّهم، وهذا قریب من روایة «كُلُّهُمْ فِی الْـجَنَّةِ إلَّا الزَّنَادِقَة»، وعلیه فالواحدة هی الخارجة عمّا اتّفق علیه كلّ الصحابة وینكر بعضه أو كلّه فهو لیس من الاُمّة لا أنّه منها ولیس من الناجیة.

والعجب ممّن كتب فی الفرق المختلفة، ویقول: إنّ أوّل اختلاف وقع بین الاُمّة كان فی أمر الحكومة وزعامة الاُمّة بعد رسول الله(ص)، ویذكر مخالفة سیّدتنا الزهراء÷ وسائر بنی هاشم وشیعتهم، ثمّ یتمسّك بهذه الزیادة، ویقول: الفرقة الناجیة هی «الجماعة».   

 ویورد علیه ـ على فرض صحّة هذه الزیادة، وأنّ المراد منها السواد الأعظم ـ: أنّ السواد الأعظم ثار على عثمان، وأنكر علیه أفاعیله وبدعه، واستعماله الخونة وبنی اُمیّة على المسلمین، وصرفه بیت مال المسلمین فی أقاربه وخواصّه، وإهماله حدود الله، وطلبوا منه التوبة وإبطال بدعه وطرد الخونة عن الاستیلاء على الاُمور، إلّا أنّه لم یقبل منهم، ولم یعمل بنصح ناصح مثل الإمام علیّ(ع)، و أصرّ على ما أغضب به رجالات الإسلام حتى قُتِل، فهل یعترف من یروی هذه الزیادة ویقول بصحّتها أنّ عثمان لم یكن من أهل النجاة، بل هو من أهل النار؟ وأمثلة ذلك كثیرة فی تاریخ الإسلام.

ونسأل ونسأل، حتى نسأل: هل الحنابلة المجسِّمة بما اعتقدوا فی الله ـ

 

على خلاف سائر المسلمین وجماعتهم ـ من العین والید، من أهل النجاة، أو من أهل النار؟

وابن تیمیّة مع آرائه المخالفة للجماعة من أیِّ الفریقین؟ والشیخ محمد عبده، ورشید رضا، وفرید وجدی وغیرهم من أهل الثقافة الحدیثة والمتأثّرین بالمذاهب الفلسفیة الغربیة الّذین خالفوا جماعة العلماء وجماعة المسلمین، من أیِّهما؟

والفرقة الّتی أحدثتها أیادی الاستعمار، وأثارت الفتن المخزیة الدامیة، وهدمت المشاهد والمعالم التاریخیة، والبنایات الأثریة الإسلامیة، الّتی كانت من أقوى الدلائل والشواهد على أمجادنا التاریخیة وسیرة الرسول الأعظم(ص) ومشاهدها، من أیِّ الفریقین؟

وبعد ذلك كلّه فالأقوى فی النظر زیادة هاتین الكلمتین، وعدم صدورهما من رسول الله(ص)، وعلى فرض الصدور لا یمكن الاعتماد علیهما؛ لإجمالهما وعدم استفادة میزانیة ظاهرة مستقیمة منها لمعرفة الفرقة الناجیة.

 

 

([1]) الشوکانی، فتح القدیر، ج2، ص59.

([2]) السیوطی، الجامع الصغیر، ج1، ص184.

([3]) الإسفراینی، التبصیر فی الدین، ص6 «مقدّمة الکوثری».

([4]) رشید رضا، تفسیر المنار، ج8، ص220.

([5]) رشید رضا، تفسیر المنار، ج8، ص220.

([6]) رشید رضا، تفسیر المنار، ج8، ص220 ـ 222.

([7]) ابن ماجة القزوینی، سنن، ‌ج2، ص1322.

([8]) الدارمی، سنن،‌ ج4، ص 241.

([9]) ابن ماجة القزوینی، سنن، ج2،‌ ص1322.

([10]) الهیثمی، مجمع الزوائد، ج1، ص189.

([11]) حكى لنا سیّدنا الاُستاذ آیة الله المغفور له السیّد محمد تقی الخوانساری ما جرى بینه وبین العلّامة الشهیر الشیخ حسن البنّا، مؤسّس جمعیّة الإخوان المسلمین من المباحثات حول المذهب، وذكر أنّ الشیخ بعد هذه المناظرات أعلن فی المسجد الحرام، أو مسجد النبیّ(ص) (التردید منّی) حسنَ عقیدته بالشیعة، واعتذر عنهم من عقیدتهم فی الخلافة، وعدم شرعیة خلافة غیر الإمام علیّ(ع)، بأنّ ذلك كان عقیدة فاطمة(س).

نويسنده: