جمعه: 10/فرو/1403 (الجمعة: 19/رمضان/1445)

دفع الإشكال عن البداء

 

المبحث الثالث: أنّه وإن ظهر بما لا یزید علیه أنّ العقیدة بالبداء بمعناه الصحیح الّذی بسطنا الکلام فیه مأخوذة من الآیات الكریمة والأحادیث الصحیحة، وعلیها قام نظام التشریع ومصلحة النبوّات، واستكمال النفوس وتربیتها وتزكیتها وقیام الاُمور بالقسط، ولذا جاء فی الأحادیث تعظیماً لهذه العقیدة:

«ما عبد الله‏ عزّ وجلّ بشیء مثل البداء».([1])

إلّا أنّه لقائل أن یقول:

نعم لا ریب فی بطلان القول بالبداء بمعناه الفاسد الّذی أشرتم إلیه لاستحالة الجهل على الله،‏ تعالى شأنه عن ذلك وعن کلّ نقص، واستحالة عروض التغیّر والتبدیل علیه، ولا ریب أیضاً فی صراحة الآیات والروایات فیما ذكرتم للبداء من معناه الصحیح، إلّا أنّ الأخذ

 

بالآیات والروایات، وما دلّت علیه، إنّما یصحّ لو لم یصادم ذلك إشكال عقلىّ، وإلّا یلزم تأویل الظاهر والصـریح على ما لا یدفعه ذلك الإشكال.

بیان الإشكال: كیف یوفّق بین هذا الأصل الأصیل الّذی یقتضـی وجوب وقوع جمیع الحوادث على وفق علمه تعالى، وعدم إمكان إحداث تغییر وتبدیل وتقدیم وتأخیر فیه، لتنزّهه تعالى شأنه عن صیرورته محلّا للحوادث وبین ما تقتضیه ظواهر هذه الآیات، وأسماؤه الحسنى والأحادیث على كثرتها من أنّه یفعل ما یشاء، ویستجیب الدعاء، ویدفع البلاء، ویزید فی الآجال وینقص منها، وأنّه یغیّر بعباده إذا غیّروا ما بأنفسهم، ویمحو ما یشاء ویثبت على وفق حكمته، واقتضاء أفعال عباده من الخیر والشرّ، فهو کلّ یوم فی شأن، وکلّ ذلك لا یجمع مع تعلّق علمه بالحوادث من الأزل. ولا ریب أنّ القائل بالبداء بالمعنى الّذی ذكرتم له، لا یرضى لنفسه أن یكون لازم اعتقاده إنکار علم الله‏ تعالى الأزلی بالحوادث وإثبات تجدّد علمه بها، تعالى الله‏ عن ذلك علوّاً كبیراً إذا فكیف یوفّق بینهما؟

أقول: هذه الشبهة، وشبهة المجبّرة ترتضعان من ثدىٍ واحد، ولو تمّت لبطل أكثر مسائل النبوّات.

 

والجواب: أوّلاً: إنّ علمه تعالى قد تعلّق بوقوع أفعاله باختیاره وإرادته ومشیّته، وأفعال العباد أیضاً باختیارهم وإرادتهم، فلو کان تعلّق العلم بها موجباً لخروج الفعل عن اختیار الفاعل ومشیّته، لزم الخلف وتخلّف العلم عن المعلوم.

وثانیاً: العلم بالشیء لا یمكن أن یكون علّةً لوجوب وجود المعلوم؛ لأنّه مع غضّ النظر عن تعلّق العلم به إن کان وجب وجوده بواسطة وجود علّته ولذا صار وجوده متعلّقاً للعلم به، فلا معنى لتأثیر العلم فی وجوب وجوده، وإن لم یجب وجوده، بحیث کان تعلّق العلم به علّة وجوده، أو من أجزاء علّته، یلزم الدور المحال؛ لتوقّف العلم به على وجوده فی ظرفه، وتوقّف وجوده على وجوبه، فإنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد، وتوقّف وجوبه على تحقّق علّته الّتی هی عین العلم به.

وعلى هذا لا یلزم من علم الله‏ تعالى بأفعاله وأفعال عباده الإیجاب فی الأفعال الصادرة منه تعالى، ولا الجبر فی أفعال المکلّفین، ولا تخلّف المعلوم عن العلم به.

 

 

 

 

([1]) الصدوق، التوحید، ص332، ب54، ح1؛ المجلسـی، بحار الأنوار، ج4، ص107، أبواب الصفات، ب3، ح19.

موضوع: 
نويسنده: