جمعه: 7/ارد/1403 (الجمعة: 17/شوال/1445)

الأمر الأوّل: فی كون البحث من الاُصول

قد ذكرنا عند البحث عمّا هو الموضوع لعلم الاُصول([1]): أنّ جمیع أرباب العلوم العقلیة والنقلیة ـ سوى من شذّ من متأخّری الاُصولیّین ـ اتّفقوا على أنّ لكلّ علم موضوعاً على حدة؛ وأنّ تمایز العلوم إنّما یكون بتمایز الموضوعات؛ وأنّ موضوع کلّ علمٍ هو الّذی یبحث فیه عن عوارضه الذاتیة، ولازم ذلك أن یكون موضوع العلم ـ كما یكون جهة امتیاز مسائل العلم عن مسائل سائر العلوم ـ جهة وحدة لمسائله المختلفة أیضاً، لاشتراك جمیع المسائل فی كونها باحثة عن عوارض هذا الموضوع؛ وأنّه، أی موضوع العلم، یكون مقدّماً فی التحصّل على مسائله، لأنّ المسائل إنّما تكون باحثة عن عوارض هذا الموضوع، فالمعلوم الأوّل ـ الّذی یجعله مدوّن العلم تجاه عقله لأن یبحث فیما یدوّنه من المسائل عن شؤونه المجهولة ـ هو موضوع العلم. ألا ترى أنّ النحویّ یجعل هیئة الكلمة من جهة آخرها تجاه عقله ویبحث عن مصادیقها؛

 

والصرفیّ یجعل هیئة الكلمة من غیر جهة آخرها تجاه عقله؛ والمنطقیّ یجعل تجاه عقله المعلوم التصدیقی الموصل إلى المجهول التصدیقی، والمعلوم التصورّی الموصل إلى المجهول التصورّی؛ والحكیم یجعل الموجود بما هو موجود تجاه عقله.

ولا یخفى علیك: أنّ مرادهم ـ كما ذكرنا ـ من العارض لیس ما اصطلح علیه الطبیعیون، وقسّموه إلى المقولات التسع، وقابلوه بالجوهر ـ الّذی إذا وجد وجد لا فی موضوع  ـ  بخلافه، فإنّه إذا وجد وجد فی موضوع. بل المراد منه العارض المصطلح عند المنطقیّ فی باب الإیساغوجی الّذی قسّموه إلى الخاصّة والعرض العامّ، وقابلوه بالذاتی المقسّم إلى النوع والجنس والفصل وهو الخارج المحمول، أی الكلّی الخارج عن الشیء مفهوماً المتّحد معه وجوداً، مثل قولهم: الجنس عرضٌ عامٌّ للفصل، والفصل خاصّةٌ غیر شاملةٍ للجنس، وكلّ منهما عرضٌ بالنسبة إلى الآخر، وهما ذاتیان للنوع، فالعرض المنطقیّ إضافیٌ، یعنی کلّ مفهومٍ یحمل على مفهومٍ آخر ویتّحد معه وجوداً عرضٌ بالنسبة إلیه. بخلاف العرض المصطلح عند الطبیعی، فإنّ عرضیته لیست نسبیة بل هو عرضٌ دائماً، كما أنّ الجوهر جوهرٌ دائماً.

وقد ذكرنا هناك أیضاً: أنّ الموضوع لعلم الاُصول وما یجعله الاُصولی تجاه عقله هو «الحجة فی الفقه». وأنّ ما استشكله المحقّق القمّی+ بأنّ لازم كون مرادهم بالأدلّة هو الحجّیة  ـ  حتى یكون مرجع كلامهم كون الموضوع حیثیة الحجّة فی الفقه ـ خروج المسائل الباحثة عن حجّیة الحجج كخبر الواحد والإجماع والظاهر وغیرها عن مسائل العلم ودخولها فی مبادیه، إذ الحجّیة تكون على هذا مقوِّمةً للموضوع لا من عوارضه.

مردودٌ؛ فإنّ منشأ هذا الإشكال عدم الالتفات إلى ما هو مراد القوم من موضوع العلم ومن عوارضه الذاتیة، وتخیّل أنّ موضوع العلم یلزم أن یكون موضوعاً لمحمولات المسائل أیضاً.

 

وجوابه: أنّه لا منافاة بین كون الحجّة محمولة فی المسائل كخبر الواحد والظاهر، وكون البحث فی تلك المسائل عن عوارض الحجّة، فإنّ عوارض الحجّة ـ الّتی یبحث فی مسألة حجّیة الظاهر وخبر الواحد مثلاً عن عروضها واتّحادها مع الحجّة فی نفس الأمر ـ هی خبر الواحد والظاهر والإجماع وغیرها ممّا وقع موضوعاً فی المسائل، لا الحجّیة حتى یقال بأنّها مقوّمة للموضوع.

بل لنا أن نقول: بأنّ الظاهر أنّ القضایا الباحثة عن حجّیة شیء وعدم حجّیته هی المسائل لهذا العلم، ولذا نرى أنّ الشافعی لم یذكر فی رسالته الّتی صنّفها فی أواخر القرن الثانی وهی أوّل ما صنّف فی علم الاُصول (فیما نعلم) غیر مسألة حجّیة الكتاب والسنّة غیر المنسوخین والإجماع وخبر الواحد والقیاس والاجتهاد والاستحسان.

والحاصل: بناءً على ما ذكرناه فی بدایة البحث (والكتاب) مفصّلاً([2]) وأشرنا إلیه هنا إجمالاً: لا ریب فی كون مسألة حجّیة الظواهر من المسائل الاُصولیة، فتدبّر.

 

([1]) تقدّم فی المجلّد الأؤّل.

([2]) تقدّم فی المجلّد الأوّل.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: