جمعه: 7/ارد/1403 (الجمعة: 17/شوال/1445)

فصل:
فی حجّیة الشهرة

ممّا قیل بحجّیته ومنجّزیته بالخصوص: الشهرة الفتوائیة.

واستدلّ على حجّیتها بمرفوعة زرارة،([1]) ومقبولة عمر بن حنظلة.([2])

والاستدلال بالمرفوعة مبنیٌّ على كون المراد من قوله: «خذ بما اشتهر بین أصحابك ودع الشاذّ النادر» مطلق المشهور فتوىً كان أو روایةً. أو على كون إناطة الحكم بالاشتهار دلیلاً على حجّیته فی نفسه.

وأمّا المقبولة، فوجه الاستدلال بها: أنّ المراد بالمجمع علیه المأمور بأخذه بقرینة قوله×: «ویترك الشاذّ الّذی لیس بمشهور» لیس ما یكون كذلك حقیقةً، بل ما یكون كذلك عرفاً ومسامحةً، فیكون التعلیل المذكور فی الروایة وهو قوله×: «فإنّ المجمع

 

علیه لا ریب فیه» دالّا على كون المشهور مطلقاً ممّا یجب العمل به. ومع ما ذكر لا اعتناء بكون مورد التعلیل الشهرة فی الروایة.

وقد أجاب الشیخ& عن الاستدلال بالروایة الاُولى: بأنّه یرد علیه، مضافاً إلى ضعفها حتى أنّه ردّها من لیس دأبه الخدشة فی سند الروایات كالمحدّث البحرانی: أنّ المراد بالموصول لیس إلّا خصوص الروایة المشهورة من الروایتین دون مطلق المشهور، ألا ترى أنّك لو سئلت عن أنّ أیّ المسجدین أحبّ إلیك؟ فقلت: ما كان الاجتماع فیه أكثر، لم یحسن للمخاطب أن ینسب إلیك محبوبیة کلّ مكانٍ یكون فیه الاجتماع أكثر بیتاً كان أو سوقاً أو خاناً.

هذا مع أنّ الشهرة الفتوائیة لا تتحقّق فی طرفی المسألة، فقوله: «یا سیّدی إنّهما مشهوران مأثوران» أوضح شاهد على أنّ المراد الشهرة فی الروایة الحاصلة، بأن تكون الروایة ممّا اتّفق الكلّ على روایته أو تدوینه، وهذا ممّا یمكن اتّصاف الروایتین المتعارضتین به.

ومن هنا یعلم الجواب عن الاستدلال بالمقبولة، وأنّه لا تنافی بین إطلاق المجمع علیه على المشهور وبالعكس حتى تصـرف أحدهما عن ظاهره بقرینة الآخر، فإنّ إطلاق المشهور فی مقابل الإجماع إطلاقٌ حادثٌ مختصٌّ بالاُصولیّین، وإلّا فالمشهور هو الواضح المعروف ومنه «شَهَر فلان سیفه» فالمراد أنّه یؤخذ بالروایة الّتی یعرفها جمیع أصحابك ولا ینكرها أحدٌ منهم، ویترك ما لا یعرفه إلّا الشاذّ ولا یعرفه الباقی.([3]) هذا ملخّص ما أفاده الشیخ+.

وتوضیح الكلام وبیان ما هو الحقّ فی المقام یقع فی مقامین:

 

المقام الأوّل: فی ما هو أوّل المرجّحات، فهل هو الشهرة الفتوائیة أو الشهرة بحسب الروایة؟

والمقام الثانی: فی حجّیة الشهرة الفتوائیة ـ ولو لم تكن على طبقها روایةٌ ـ وعدمها.

أمّا المقام الأوّل: فیمكن أن یدّعى أنّ الإرجاع إلى ما هو المجمع علیه وأخذه فی مقابل الشاذّ إن كان بملاحظة كون الروایة ممّا اتّفقوا على روایتها أو تدوینها ـ كما ذكره الشیخ+ أثناء کلامه ـ وإن كان ربما یستظهر خلافه ممّا ذكره ثانیاً فی ذیل کلّامه بقوله: «فالمراد أنّه یؤخذ بالروایة الّتی یعرفها جمیع أصحابك ولا ینكرها أحدٌ منهم»؛ فإنّ معرفة الروایة وعدم إنكارها ظاهرٌ فی كون مضمونها كذلك، إلّا أنّ الحقّ موافقة ما أراده من هذه العبارة مع عبارته الاُولى.

فیمكن دعوى عدم استقامة ما یستفاد من الروایة بحسب هذا البیان، فإنّ المراد من المجمع علیه إن كان اتّفاق الكلّ على روایته وتدوینه فیجب ترجیح الروایة به ولو كان الخبر المشهور بحسب الروایة شاذّاً بحسب الفتوى بأن كان رأی أكثر الأصحاب على خلافه وبطلان مضمونه، ومثل هذا لا ینبغی أن یكون مرجّحاً. والشاهد على ذلك التعلیل المذكور فی الروایة وهو قوله×: «فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه» فإنّ ما یصحّ أن یتّصف بكونه ممّا لیس فیه ریبٌ هو مضمون إحدى الروایتین لا لفظها.

إن قلت: إنّ هذا مخالف لظاهر الروایة، فإنّ الظاهر من لفظ المجمع علیه ما اتّفق علیه الكلّ من إحدى الروایتین، وهو یتّفق فی الروایة لإمكان اتّفاقهم فی روایتها أو تدوینها مع روایة بعضهم ما یعارضها أیضا، ولا یتّفق ذلك فی الفتوى لعدم إمكان اتّفاق الكلّ على رأی مع كون رأی بعضهم غیره.

قلت: المراد بكون المجمع علیه لیس اتّفاق الكلّ لعدم وجود روایة بهذه الصفة، ولو وجدت فلیس ممّا یعتنى بشأنه لقلّته، ولیست فی الأخبار المتعارضة روایة اتّفق

 

جمیع القدماء على تدوینها أو روایتها. فالمراد من المجمع علیه والمشهور أن تكون الروایة بحسب المضمون أو بحسب اللفظ بحیث یعرفها هذا الراوی وذاك الراوی وغیرهما من الرواة، بخلاف الشاذّ فإنّه ممّا لا یعرفه هذا الراوی وذاك وغیرهما من الرواة ولكن یعرفه الشاذّ من الرواة دون غیره.

فإن قلت: یمكن أن یكون مورد الروایة ممّا توافق فیه الشهرة الفتوائیة والروائیة، فلا مجال لحملها على الاُولى والقول بكونها بنفسها أوّل المرجّحات.

قلت: ما هو الملاك فی الحكم بالترجیح لیس إلّا الشهرة فی الفتوى دون غیرها، لكونه بالنسبة إلیها كالحجر بجنب الإنسان، فالشهرة الفتوائیة مرجّحةٌ سواءٌ كانت الروایة مشهورةً أم لا.

إن قلت: إنّ هذا الاستظهار خلاف ما ذكر فی الروایة وهو كون الخبرین مشهورین لعدم إمكان كونهما مشهورین بحسب المضمون، وهذا بخلاف الشهرة فی الروایة لإمكان كونهما مشهورین وممّا اتّفق الكلّ على روایته وتدوینه.

قلت: إنّ الخبرین مشهوران بحسب المضمون إذا كان مضمون کلّ واحدٍ منهما ممّا أفتى به كثیرٌ من الأصحاب وكان معروفاً عندهم بحیث لا یكون من الأقوال والآراء الشاذّة.

هذا ملخّص الكلام فی المقام الأوّل وهو: كون الشهرة فی المضمون أوّل المرجّحات وهو مطابق لعمل الفقهاء؛ فإنّهم یأخذون فی مقام التعارض بالخبر الّذی یكون مشهوراً بحسب المضمون.

وأمّا المقام الثانی: وهو حجّیة الشهرة الفتوائیة ولو لم تكن على طبقها روایة.

فیمكن أن یقال بعد ما ذكرنا أنّه لا دخل لوجود الخبر فی مرجّحیة الشهرة بل هی بنفسها كذلك، كما هو مقتضى التعلیل المذكور فی قوله×: «فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه»، فإنّ الشهرة ممّا لا ریب فیه، ولا دخالة لوجود الخبر وعدمه فی كونها هكذا.

 

إن قلت: فعلى هذا، یلزم أن تكون مخالفة العامّة أیضاً كذلك؛ فإنّ وجوب الأخذ بما خالفهم أیضاً معلّل بأنّ فیه الرشاد وأنّ الرشد فی خلافهم، كما فی غیر هذه الروایة، ولا دخل لكون الرشد فی خلافهم بین وجود الخبر وعدمه، فلو دار الأمر بین الأخذ بفتوى الموافق لهم وفتوى المخالف لهم یجب الأخذ بفتوى المخالف.

قلت: ما ذكرت إنّما یتوجّه إذا كانت فتوى المخالف للعامّة متعیّنة، كما إذا دار الأمر بین الوجوب والحرمة وكان أحدهما مخالفاً لهم والآخر موافقاً. أمّا مع عدم كونها متعیّنة لاحتمال كون الفعل الّذی هو بحسب الفتوى الموافقة لهم حرامٌ واجباً كان أو مباحاً أو مكروهاً أو مستحبّاً، فلا یمكن الإحالة إلیه، وهذا بخلاف فتوى المشهور فإنّها تكون بنفسها متعیّنة، هذا.

ولكنّ الظاهر عدم صحّة إلغاء الخصوصیة بالمرّة. نعم، لا مانع من إلغاء خصوصیة كون الخبر الّذی یكون مشهوراً بحسب المضمون «أحد الخبرین المتعارضین» فلو لم یكن  منهما یجب العمل به أیضاً ویكون حجة إذا كان مشهوراً بحسب المضمون. ولكن یشكل القول بكون الاشتهار بحسب المضمون بنفسه حجّة ولو لم یكن على وفاقه خبرٌ، لاحتمال دخالة وجود الخبر فی حجّیته.

وبهذا یمكن الاستدلال على ما یتكرّر كثیراً فی کلام متأخّری المتأخّرین من جبر ضعف السند بفتوى المشهور ولو لم یستندوا فی فتواهم إلى هذا الخبر الضعیف. فالاشتهار بحسب المضمون یكون جابراً لضعف سند الخبر وسبباً لحجّیته ووجوب الأخذ به.

هذا، ویمكن أن یقال فی مقام حجّیة الشهرة: إنّ الفتاوى المذكورة فی الكتب الفقهیة على ثلاثة أقسام:

إحداها: الفتاوى المتلقّاة بنفسها من المعصوم الّتی لا یعمل فی معرفتها استنباط ولا یتوسّط النظر فی فهم ما اُرید منها.

 

ثانیتها: الفتاوى المتلقّاة من المعصوم الّتی لابدّ من إعمال النظر والاستنباط فی معرفتها، لوجود الإجمال والإبهام فیها.

ثالثتها: الفتاوى التفریعیة، والفروع الّتی تستنبط من الاُصول الأوّلیة الفقهیة.

ولا ریب فی عدم حجّیة الشهرة فی المسائل التفریعیة الّتی لم یرد فیها نصٌّ بالخصوص، وإنّما استنبطوا حكمها من الروایات والأخبار الواردة عنهم^ بسبب إعمال النظر والاستنباط.

وكذا لا حجّیة فی الفتاوى المتلقّاة الّتی تكون من القسم الثانی؛ فإنّها تكون بمنزلة محفظةٍ حاویةٍ لأشیاء كثیرةٍ أخذتها الرواة وأوصلوها إلینا یداً بید، فعلینا فتح باب هذه المحفظة وتحصیل العلم بما فیها من الذخائر والمطالب.

وأمّا فی الفتاوى المتلقاة الّتی تكون من القسم الأوّل، فعدم الاعتناء بفتوى المشهور من القدماء فیها فی غایة الإشكال؛ فإنّ دیدنهم ودأبهم فی كتبهم لیس إلّا ذكر الأحكام الصادرة عنهم^ من دون إعمال النظر واستعمال الاستنباط، بل لا یتجاوزون فی مقام ذكر الفتوى الألفاظ الواردة فی الروایات.

نعم، قد عدل الشیخ+([4]) عن هذه الطریقة فی كتابه المبسوط، لما ذكر فی أوّله من أنّه كتبه دفعاً لإیراد العامّة علینا من خلوّ فقهنا عن المسائل التفریعیة وسدّ باب الاجتهاد فی مذهب الشیعة، من جهة كوننا من أصحاب النصّ.

ولأجل ما ذكر من استقرار عادتهم على ذكر الأحكام الصادرة عن المعصومین^ فی كتبهم من دون إعمال النظر والاجتهاد، ربما یقال بالنسبة إلى بعض كتبهم الفتوائیة: بكون الفتاوى المذكورة فیها عبارات الروایات وألفاظها. فلو أفتى المشهور فی مسألة

 

على أحد طرفیها، بل أفتى عدّة منهم كابنی بابویه والشیخین وأمثالهم، فلیس للفقیه عدم الاعتناء بفتواهم والجرأة على مخالفتهم؛ فإنّ اشتهار المسألة عندهم كاشف عن وجود دلیلٍ معتبرٍ، خصوصاً لو ضمّ إلى ذلك دقّتهم فی الفتاوى وعثورهم على الجوامع الأوّلیة الّتی لیست بأیدینا.

ومع ذلك کلّه، لا ینبغی الاغترار بمجرّد ذلك والأخذ بكلّ شهرةٍ فی کلّ مسألة، بل یجب الوقوف والتأمّل عند الموارد والمسائل بحسبها، وتتبّع کلمات القوم والتدبّر فیها.

والله تعالى أعلم بالصواب، ونسأل منه التوفیق والعصمة عن السیّئات، ونعوذ به من کلّ زلّةٍ وسوءٍ فی الدنیا والآخرة، ونسأله أن یحفظ دیننا، ویرزقنا العلم والعمل، ویغفر لنا ولأساتیذنا ولوالدینا ولإخواننا الّذین سبقونا بالإیمان، ویصلّی على محمدٍ وآله الطاهرین.

 


([1]) وهی: عن زرارة، قال: قلت: جعلت فداك یأتی عنكم الخبران والحدیثان المتعارضان فبأیّهما نعمل؟ قال×: «خذ بما اشتهر بین أصحابك ودع الشاذّ النادر»، قلت: یا سیّدی إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم، قال×: «خذ بما یقوله أعدلهما...» الحدیث.

([2]) عن أبی عبد الله‏× فی حدیث: «ینظر إلى ما كان من روایتهما عنّا فی ذلك الّذی حكما به، المجمع علیه عند أصحابك، فیؤخذ به من حكمنا، ویترك الشاذّ الّذی لیس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه... » الحدیث. الکلینی، الكافی، ج1، ص67 ـ 68‌، ح10؛ الطوسی، تهذیب الأحکام، ج6، ص301-303، ح 845 ؛ الصدوق، من لا یحضره الفقیه، ج3، ص10، ح2؛ الحرّ العاملی، وسائل الشیعة، أبواب صفات القاضی، ج27، ص106، ب 9، ح 1.

([3]) الأنصاری، فرائد الاُصول، ص65 - 66 .

([4]) الطوسی، المبسوط، ج1، ص3.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: